أخيرة

نافذة ضوء

غياب القضيّة والخطة النظاميّة أصل مأساتنا في العالم العربيّ

 يوسف المسمار 

غياب القضيّة القوميّةالاجتماعيّة

 قال مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده في خطابه التأسيسي المنهاجي الأول في أول حزيران 1935:

«لم تكن للشعب السوريّ قبل تكوين الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ قضيّة قوميّة بالمعنى الصحيح. كل ما كان هنالك تململ من حالات غير طبيعيّة لا يمكن الشعب السوريّ أن يأنس إليها أو يجد فيها سداً لحاجاته الحيويّة.

وقد تزعم جماعةٌ تململَ الشعب وجعلوا همّهم استثمار هذا التململ لينالوا مكانة يطمعون فيها، واستندوا في تزعّمهم إلى بقيّة نفوذ عائليّ مستمدّ من مبادئ زمن عتيق تجعل الشعب قطائع موقوفة على عائلات معيّنة تبذل مصالح الشعب في سبيل نفوذها.

ورأى هؤلاء المتزعّمون أن العائلة والبيت لا يكفيان في هذا العصر لدعم التزعم فلجأوا إلى كلمات محبوبة لدى الشعب، كلمات الحرية والاستقلال والمبادئ وتلاعبوا بهذه الألفاظ، المقدّسة متى كانت تدلّ على مثال أعلى لأمة حيَّة، الفاسدة متى كانت وسيلة من وسائل التزعم وستاراً تلعب وراءه الأهواء والأغراض، خصوصاً المبادئ، ففيها يجب أن تتجلّى حيويّة الأمة وحاجاتها الأساسيّة».

هذه هي الحال التي كان عليها مجتمعنا التي وصفها وشخّصها أنطون سعاده بأدق تفصيل، وهذا هو الواقع الذي كنا عليه. واستناداً الى تلك الحالة وذلك الواقع ساد في التاريخ مبدأ عام:

«هو أن مصير سورية يُقرّر بالمساومات الخارجيّة دون أن يكون للأمة السوريّة شأن فعليّ فيه، وعلى هذا المبدأ تعتمد الدول الكبرى في مزاحمتها لبسط نفوذها علينا».

كما قال أنطون سعاده في خطابه المذكور.  

  ولم يكن كلام سعاده المذكور آتياً من فراغ، ولا كلامأ بدون هدف جليّ من أجل الكلام ليُقال عنه إنه كاتب أو خطيب مفوّه ليمدحه قارئؤه وسامعوه، بل قبل أن يقول أنطون سعاده ما قاله في خطابه التأسيسيّ قال ما هو أهم وما هو أخطر على وجودنا كأمة لا كفرد أو أفراد ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في سنة 1925هذا القول الخطير:

غياب الخطة النظامية القومية الاجتماعية

«رغماً من أن الحركة الصهيونيّة غير دائرة على محور طبيعيّ، تقدّمت هذه الحركة تقدماً لا يستهان به فإجراءاتها سائرة على خطة نظامية دقيقة، وإذا لم تقم في وجهها خطة نظاميّة أخرى معاكسة لها كان نصيبها النجاح. ولا يكون ذلك غريباً بقدر ما يكون تخاذل السوريين كذلك إذا تركوا الصهيونيين ينفّذون مآربهم ويملكون فلسطين».

نستنتج من ذلك أن الدافع الحقيقيّ لكلام أنطون سعاده هو معرفة قضية الأمة لتنهض بها ومعرفة الخطة النظامية لتواجه بها أعداء الأمة وتنقذها مما وقع عليها من ويل ومما هي فيه من مأساة.

ولأنه اكتشف أن لا قضية حقيقية لنهضة الأمة، ولا خطة نظاميّة دقيقة تحفظها وتحافظ على وجودها وحياتها وتقرير مصيرها من غزوات أعدائها كان عليه أن يوجد للأمة قضيّة بالمعنى الصحيح، ويضع لها الخطة النظاميّة السليمة التي تحافظ على وجود الأمة وحياتها ووجود العالم العربي وحياته وتقودهما الى الفلاح والمجد والنصر.

مجتمع بدون قضيّة معرّض لخطر الانقراض

هنا يظهر الخطر الكبير علينا من خلال تزاحم الدول الكبيرة وخططها لبسط نفوذها علينا، وتحويل شعبنا الى قطعان من البشر مسيَّرة بإرادة من يسيطر عليها، وكذلك تحويل بلادنا الى مزارع وأهراء ومناجم لتقوية وتعزيز اقتصاد المسيطرين علينا، وبالتالي تحويل العالم العربي الى مراكز نهب نفطهم وغازهم وابتزازه، وإلى محطات استراحة ومنصات فتن وأحقاد.

أما الأدهى والافظع من كل هذا فقد ظهر حين قرر العدو اليهودي الصهيوني القضاء علينا باستيطان وطننا واقتلاع شعبنا من أرضنا عندما أقنع بالخطة الجهنمية اليهودية الصهيونية بمكره قيادات الدول الاستعمارية فاقتنعت حكومة الولايات المتحدة الأميركية وحكومات انكلترا وفرنسا بأهميتها وتحالف الجميع على تنفيذها لتصبح خطة صهيوأميركيةأوروبية غربية أعرابية إسلاموية رهيبة أقل ما يقال فيها إنها مرحلية تبدأ بامتلاك جنوب سورية الغربي البحريّ فلسطين لتكون قاعدة انطلاق باتجاه امتلاك كامل أرض الوطن السوري لبلاد الشام والرافدين تمكّنها بعد ذلك من الإجهاز على الشعب السوري بكامله وتدميره تطويعاً أو استعباداً، اًو قتلاً وتهجيراً، اًو اقتتالاً في ما بين عناصره ومكوّناته، وسحقأ للحضارة السورية التاريخية بالكامل، وزرع ثقافة يهودية صهيونية، وإنشاء دولة إسرائيل العظمى في بلاد الشام والرافدين السورية، ومن ثم تحويل كامل بلاد الناطقين بالعربية الى حظائر صهيوأميركية، ومسخ شعوب بلاد الأعراب لتتحوّل الى قطعان بشرية همّها الأكل والشرب والجنس وإنتاج نسلٍ جديد من المستخدمين والعبيد يخدمون أسيادهم الصهيوأميركيين بطريقة عفويّة لا إرادية في الداخل، ويستخدمونهم عبيداً كمرتزقة وقراصنة وانكشاريين وقتلة ومخربين في الداخل والخارج لتطويع الشعوب التي تتمرّد على شهواتهم وأهوائهم وملذاتهم، حتى يستتب الأمر ويستقر وتقوم الإمبراطورية اليهودية الصهيونية العالمية على أنقاض الأمة السورية في بلاد الشام والرافدين.

وهذا هو الأمر الخطير الذي جعل أنطون سعاده يستعجل في ايجاد فلسفة القضية القومية الاجتماعية ووضع الخطة النظامية الدقيقة المعاكسة التي تقوم على محور طبيعيّ حق في مواجهة الخطة الصهيونية التي تدور على محور غير طبيعي وباطل، لتشكل خطة العالم الاجتماعي السوري أنطون سعاده الخطة المعاكسة الأشدّ دقة والأصح عقيدةً، والأدق نظاماً، والأوعى والأصدق والأصلب جنوداً في عالمٍ مسحور ومبهور بخطة التكفير اليهودي لجميع أبناء الأرض الذين تجاذبتهم وتقاذفهم رياح الفتن وعواصف الأحقاد، وضللتهم وتضللهم سموم الأوهام والخرافات، وشوهّت وتشوّه مفاهيمهم شرائع الغاب والتوحش والهمجية، فتجندت حكوماتهم لمساعدة المعتدي وتبرير اعتداءاته، والتستر على جرائمه، والدفاع عن باطله، والقتال نيابة عنه إذا اقتضى الأمر.

العدوان الكبير غير المسبوق في التاريخ

وللأسف الكبير نقول إن الصهيوأميركيين تمكنوا من حصار المجتمع السوري على أرض الشام والرافدين في هذا الزمن بكراهية وأحقاد عربية رسمية مقيتة واضحة عبّر عنها قرار جامعة الحكومات العربية بطردها للجمهورية العربية السورية من الجامعة وهي أولى الأعضاء المؤسسين.

وكذلك تمكنوا من فرض حصار أبشع بحقد إسلاموي دفين بغيض عبّر عنه دعاة من يسمون أنفسهم علماء مسلمين بفتاوي التضليل والذبح والقتل وبقر البطون واستئصال الأرحام وتقطيع الأطراف والمتاجرة بالأعضاء البشرية.

وكذلك أيضاً كان الحصار الأشد والأكبر الذي قامت به دول وحكومات التعدي بإقفال سفارات الجمهورية العربية السورية وقنصلياتها وفرض العقوبات عليها وإجبار من لم يقتنع بمقاطعتها بقطع علاقاتها معه وتسليح المجرمين والمرتزقة وتمويلهم والعناية بهم وبعائلاتهم، وبتشويه سمعة المتعاونين مع حكومة دمشق وكل ذلك، لأن حكومة دمشق لم تستسلم لإرادة المعتدين ولم توافق على تمليك فلسطين للكيان اليهوديّ الصهيونيّ تمليكاً كاملاً، ولم توافق على بند عدم عودة أبنائنا الفلسطينيين المهجّرين الى ديارهم وأرزاقهم ومدنهم وقراهم التي هُجِّروا منها، ولم تقبل بالتعاون مع الأعداء بمحاصرة وملاحقة وضرب أشراف الأمة المقاومين الذين تخلّوا عن كل مباهج الدنيا كرمى لفلسطين وحباً بحياة عزّ الأمة وعزّ أبنائها. العز الذي هو أثمن ما في الوجود.

وكل ما نراه اليوم من هجمات تشويهيّة للمقاومين والمدافعين عن حقوق أمتنا وكرامتها ليس إلا من إنتاج وإبداع وترويج الحركة اليهوديّة الصهيونيّة وداعميها وأذنابها وأذناب الداعمين.

هل ذهبت الغفوة وعادت الصحوة؟

إن السؤال الكبير والمهم في أيامنا هو: هل استيقظ المثقفون في بلادنا وانتهت الغفلة عند المثقفين في العالم العربي الناطقين بالضاد وعادت لهم الصحوة ليتعمّقوا في فهم القضية القومية الاجتماعية وليراجعوا الخطة النظامية الدقيقة التي وضعها أنطون سعاده وحاربوه للقضاء عليه وعليها منذ ثلاثينيّات القرن الماضي؟

أم أنهم ما زالوا بعيدين عن التفكير الواقعي ومستسلمين الى غفوتهم ولاهين عما يُرسم لهم من الخطط دون أن تظهر عليهم علامات التنبه واليقظة؟

وإذا كانوا غير مقتنعين بالخطة التي وضعها أنطون سعاده واستشهد من أجلها لإيمانه بأن في تحقيقها نهوض شعوبنا العربية وخلاصهم من شرور أمراض الداخل واعتداءات الخارج فلماذا لا يضعون الخطة البديلة ويقطعون علاقاتهم بتاريخ الهزائم والنكبات والويلات؟

ولماذا يستمرون على اجترار الخواطر والأفكار والنظريات والمفاهيم المستوردة التي ما جرّت علينا الا الكوارث، ولا تلوّح لنا الا بالمصير المرعب القاتم، ولا تقودنا الا الى مقابر التاريخ؟

لقد أثبتت الأحداث أن قلة من أبناء شعبنا في فلسطين فعلوا ويفعلون في مواجهة الاغتصاب الصهيوأميركي الغربي ما لم تستطع ملايين العرب مجتمعين من فعل واحد بالألف مما فعلوه، وأثبتت الوقائع والأحداث أيضاً أن عدداً قليلاً من المقاومين وأبناء المقاومة في لبنان أنجزوا من الانتصارات من أجل فلسطين ومقدسات الاسلام المسيحي والمحمدي ما فضح هزائم ملياراتهم المنتشرة في شتى مناحي بقاع العالم.

 إن عدونا عرف ويعرف ما يريد وهو يريد القضاء علينا وامتلاك بلادنا وليس في نيته ما يشير الى التراجع عن هذا الهدف، فلماذ لم نعرف حتى الآن ماذا نريد؟

وما هو هدفنا في الحياة؟

وهل يجوز أن نتنازل عن حياتنا وكرامتنا ومثلنا العليا في الحياة لنخدم بتنازلنا عن قيمنا أعداءنا الذين يريدون القضاء علينا؟

إن غياب القضية والخطة النظامية أصل مأساتنا في العالم العربي، ولذلك كان هم العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده إيجاد القضية السورية القومية الاجتماعية والخطة النظامية العقائدية الدقيقة لسورية الطبيعية الشاملة بلاد الشام والرافدين محملاً أمته مسؤولية النهوض بنفسها كي تتمكن من القيام بواجبها ومسؤوليتها العربية الكبرى لأن سورية اذا لم تكن ناهضة وقوية وفاعلة لا تستطيع النهوض بنفسها ولا النهوض بمهمتها العظمى التي هي النهوض  بمجتمعات عالمها العربي.

وقد أعلن سعاده موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي بوضوح من القضية العربية في محاضرته العاشرة بتاريخ 4 نيسان 1949 بقوله الاستراتيجي:

إن القوميّة السورية هي الطريقة العملية الوحيدة والشرط الأول لنهضة الأمة السورية وتمكينها من الاشتغال في القضية العربية. إن الذين يعتقدون أن الحزب السوري القومي الاجتماعي يقول بتخلي سورية عن القضية العربية، لأنهم لا يفهمون الفرق بين النهضة السورية القومية الاجتماعية والقضية العربية، ضلّوا ضلالاً بعيداً.

أننا لن نتنازل عن مركزنا في العالم العربي ولا عن رسالتنا الى العالم العربي، ولكننا نريد، قبل كل شيْء، أن نكون أقوياء في أنفسنا لنتمكن من تأدية رسالتنا. يجب على سورية أن تكون قوية بنهضتها القومية الاجتماعية لتستطيع القيام بمهمتها الكبرىلذلك نحن نرى هذه النهضة مقربة لنا للعمل والتعاون في العالم العربي لا مبعـدة، لأنه حين لا تكون هذه النهضة لا نكون متعاونين في العالم العربي بل منساقين في تيارات في العالم العربي

لذلك، فشرط التعاون في العالم العربي هو أن نقدر على تقديم شيء، ولكي نقدر على تقديم شيء يجب ان نكون نحن أولاً شيئاً.

لا يمكننا أن نقدّم شيئاً ونحن لا شيء. لا يمكن لسورية أن تخدم العالم العربي في شيء وهي مبعثرة، مجزأة نفسياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وليس لها كيان موحّد أوذات أو حقيقة أو نفسية…”.

وكم كان رضى أنطون سعاده كبيراً وفرحه عظيما لو رأى غيره في أي مجتمع من مجتمعات العالم العربي في شرقه أو غربه او شماله أو جنوبه يقوم بإيجاد قضية نهضة حقيقية تساعد على نهوض مجتمع من مجتمعات العالم العربي, ووضع خطة نظامية دقيقة تسعى الى إنشاء جبهة عربية واحدة سليمة تكون سداً منيعاً في وجه المطامع العدوانية الاستعمارية المتربصة بجميع المجتمعات العربية!

لقد كان واضحاً موقف العالم الاجتماعي أنطون سعاده من العالم العربي في هذا القول الذي لا التباس فيه:

نحن نسعى إلى إيجاد جبهة من الأمم العربية تكون سداً ضد المطامع الأجنبية الاستعمارية، وقوة يكون لها وزن في إقرار المسائل السياسيّة الكبرى وتحقيق إرادة هذه الأمم”.

*باحث وشاعر قوميّ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى