أولى

لبنان بين تحرير ثرواته وتحريره من لصوصه!

د. عدنان منصور*

 الكلّ يتأهّب، يتحرّك، يطالب بحقوق لبنان في ثروات مياهه البحرية!

الكلّ يركز على الأهميّة الكبيرة لعائدات الثروة التي منها يستطيع لبنان أن يسدّد ديونهُ، ويُغذّي خزينته الفارغة، ويسير بها قدُماً من أجل التنمية والرخاء.

أصبح حيتان المال يرون في الثروة البحريّة مفتاح الفرج لتغطية موبقاتهم، وموبقات المسؤولين الفاسدين، الذين تعاقبوا على الحكم والوزارات، والإدارات العامة، والمؤسّسات الرسميّة، والمجالس والصناديق، وأمعنوا في السرقة ونهب المال العام، وإذلال الناس، وإفقارهم وتجويعهم منذ أن أرسيت دعائم نظام الحصحصة منذ ثلاثين عاماً وحتى اليوم.

 لماذا نريد أن تكون المقاومة التي حرّرت لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي» ودفعت الثمن الغالي في الأرواح والممتلكات، حيث لا يزال تراب الجنوب ندياً بدماء المقاومين الشهداء، ضريبة تصبّ في صالح شبكة من الاحتكاريين الانتهازيين، الذين يمسكون بمفاصل المال والسلطة، وينغمسون في صفقاتها الصغيرة والكبيرة.

 كان على زعماء الطبقة الحاكمة بعد تحرير لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي»، ان يقدّروا ويقيّموا، عالياً، ويدركوا أهميّة ومعنى التحرير، ومفاعيله، ونتائجه الإيجابية الكبيرة على لبنان، وقيمة التضحيات، والدماء الزكية التي سالت على تراب الوطن. لكن طبقة الفاسدين لا يعنيها التحرير، ولا الشهداء، ولا بناء دولة، ونهضة شعب. بل آثرت استخدام كلّ الوسائل غير الدستوريّة والقانونيّة، لتحقيق الثروات، والاستيلاء على المال العام والخاص، واتباع سياسات مدمّرة، هي من أقذر السياسات التي لم يشهد العالم مثيلاً لها، والتي أدّت الى تحلّل البلد بأكمله، وأساءت الى صدقيّته، وسمعته، وقوّضت أركانه اقتصاداً، ومالاً، واجتماعاً، وأخلاقاً.

سياسات عفنة أسفرت عن إذلال وتجويع وإفلاس شعب بأكمله.

بأيّ منطق وأيّ حق، يعوّل أصحاب السلطة، من قراصنة المال، ومنظومة الاحتكاريين، على ثروات لبنان البحرية في تغطية ديونه، وعجزه المالي، فيما الناهبون، السارقون، المختلسون، يبقون بعيداً عن العدالة والقضاء، وخارج المساءلة والمحاكمة!

 لماذا كُتب على المقاومين والشهداء، وأبناء الشعب الصابر، أن يكونوا خشبة خلاص للصوص في السلطة وللفاسدين فيها؟! هل جزاء الشهداء والمقاومين الذين حرّروا وطنهم، أن يروا عائلاتهم وأسرهم وأبناء شعبهم الذي دافعوا عنه وحموه، يذلّ ويجوع، ويهان، ويهجر؟!

 هنا في لبنان مَن يقاوم، ويقاسي، ويحمي الأرض وسيادتها، بالعرق والدم والدموع، وهناك قافلة من المقامرين بالوطن، والشعب، والأرض. لا همّ لهم سوى المناصب، والمكاسب،

والمراكز الدسمة، والنفوذ، والثروة!

 هل كُتب على المقاومة التي هي جاهزة اليوم لانتزاع حقوق لبنان في ثروته البحريّة، أن تتحمّل المسؤوليّة وحدها، وأن تكون في المقدّمة، وتبذل الغالي والنفيس، من أجل سداد ديون لبنان، وحفاظاً على ثروات الأجيال القادمة؟!

 إنّ مَن سرق شعباً، وأفلس خزينة، ونهب دولة، وبيّض أموالاً، واستولى على ودائع الناس وهرّبها، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يؤتمَن على ثروات بحرية بعد تحريرها. فالذي يضحّي ويستشهد من أجل شعب ووطن، ليس كاللص الذي ينتهر الفرصة لينقضّ على الغنيمة.

والذي يضع نفسه في مقدّمة جبهة القتال ويستشهد، ليس كمن يكون في الصف الأمامي داخل مسرح ترفيهي.

لقد حرّرت المقاومة وطناً عام 2000، لكن لم نستطع أن نحرّره من العابثين، والمنافقين، والفاسدين، والسارقين!

 فبأيّ قانون ومنطق، وبأيّ شرع وضمير، يقاوم هذا، ويتخاذل ذاك! يستشهد هذا، ويستجمّ ذاك! أن يحرّر هذا ثروات بلده ويستردّها بالدم، وينهبها ذاك ببرودة أعصاب!

 هل كُتب على المقاومة أن تكون رافعة رغماً عنها، لزمرة سلطوية حاكمة، لا يؤمَل منها خيراً لا اليوم ولا غداً، نتيجة حسابات داخليّة، وتوازنات واعتبارات هشّة تأتي في نهاية الأمر على حساب أبناء المقاومة والشعب بأسره؟! هل كُتب على المقاومة أن تكون وحدها في مواجهة أطماع العدو في الخارج، ومافيات الدولة العميقة في الداخل!

 إنّ تحرير الثروات البحرية اللبنانية، في ظلّ هذه المنظومة الفاسدة التي تمسك بالقرار والقضاء، ومفاصل القوة، سينعشها مجدّداً، وستصبح أكثر فساداً وطغياناً، واستبداداً، لتزيد من الثروات، والأرصدة لها ولأبنائها، وأزلامها، وحاشيتها، ومحاسيبها.

 في لبنان مقاومة ومحرّرون وطنيّون، وفي المقابل عملاء، ومتخاذلون، وتجار وطن وانتهازيون!

 هنا في لبنان مَن يدفع ضريبة الدم حفاظاً على السيادة والأرض والشعب، وهناك مصّاصو دمه، لا يعنيهم شيئاً سوى السلطة، والممتلكات، والثروة، ورصيدهم من المال الأسود في المصارف .

 إننا أمام استحقاقين خطيرين، لهما أهميتهما القصوى، على لبنان وشعبه: الحفاظ على حقوق الوطن وثرواته البحرية، وأيضاً، وهنا الأهمّ استئصال المنظومة الفاسدة من جذورها التي كانت السبب الرئيس لمآسي وويلات لبنان وشعبه، ووضع حدّ نهائي وحاسم لها. فالمقاومة التي استطاعت أن تلحق الهزيمة بالعدو «الإسرائيلي»، وتحرّر الأرض، لا تعجز بكلّ تأكيد عن تحرير لبنان من وباء زمرة مشبعة بالفساد، إذ حان وقت اجتثاثها واقتلاعها قبل فوات الأوان، وقبل انهيار الهيكل بكامله على الجميع .

 فأيّ استحقاق من الاستحقاقين يتوجّب على المقاومة وكلّ

الوطنيين الشرفاء اعتماده أولاً، ومن ثم الانطلاق به!

 إنّ الكارثة التي حلت بلبنان جراء السياسات والقرارات العشوائيّة المتعمّدة، والمشبوهة لمنظومة النظام في الداخل، لا تقلّ خطورتها عن السياسات العدوانيّة «الإسرائيلية» التي تريد أن تستولي، وتنهب ثروات لبنان البحريّة.

السرقة قاسم مشترك بين لصوص الداخل ولصوصيّة العدو في الخارج. لصوص الخارج يستعدّون لسرقة ما يستطيعون سرقته من ثروات لبنان البحريّة، أما لصوص الداخل فقد سرقوا ثروات لبنان بأكملها، ولم يبقوا لشعبه سوى ما أنعمه الله عليه.

وحتى إشعار آخر، من ثروات بحريّة، قبل أن تفتح حيتان المال في السلطة شهيّتها وتبتلعها كما ابتلعت أموال شعب بأكمله .

 في بلد كلبنان، مَن يحمي مَن؟! ومَن يصون سيادة وطن، ويتمسك بحقوق شعبه، في ثروته وحقه وكرامته؟! لكلّ المتخاذلين والمتواطئين، والراكعين، والمشككين ظلماً، وحقداً وكراهية: لا توجّهوا سهامكم الى المقاومة، وسيّدها، ورجالها، بل وجّهوا سهامكم الى الذين خذلوكم ونهبوكم وسرقوكم، وأذلوكم ودفنوكم أحياء في عقر داركم، وزرعوا في عقولكم الإحباط واليأس، وانتزعوا منكم روح الثورة، وأماتوا في نفوسكم الأمل بمستقبل حرّ عزيز.

 حقوق الشعوب لا تشحذ، وكرامتها ليست هبة من الآخرين، وحريّتها ليست منّة من المستبدّين.

 اللبنانيون، كلّ اللبنانيين على المحك، وأمام الحقيقة والتحدّي الكبير، وهم في مواجهة سرقة العصر التي لحقت بهم من قبل قراصنة الداخل، وسرقة ثرواتهم البحريّة من قبل «الإسرائيليين»، قراصنة الخارج!

فأيّ خيار أمام اللبنانيّين لتصحيح الوضع الشاذ في الداخل والخارج؟!

ليقل لنا الغيارى على مصالح لبنان وسيادته، وثروته، وحقوق شعبه، إذا كان لديهم من خيار آخر غير خيار المقاومة يستطيعون به الحفاظ على سيادة وطن وثرواته الطبيعيّة، وحقوق شعبه، فليتفضّلوا! على أن لا يكون الخيار الهش في الداخل، يعتمد على اجترار مفهوم الديمقراطية، وحساسية الوضع، والتوازن، والميثاقية الوطنية والطائفية، وإلى ما هنالك من مفردات منمّقة تثير الاشمئزاز. ولا أن يكون الخيار تجاه العدو في الخارج، على غرار التمسك بالقرار 425، حيث سبق للحمقى أن عوّلوا على «رسل السلام» في لبنان والعالم، فأمضينا معهم سنوات عجاف ونحن ننتظر الترياق من الأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، و»دعم» الدول «الصديقة»، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لتكون لنا عوناً على انسحاب المحتلّ «الإسرائيلي» من لبنان. إلا أنّ الترياق وتحرير الأرض أتى على سواعد المقاومين البواسل. وهل غير المقاومين من يحرّر الأرض والثروات الوطنية! وعلى من نعوّل لتكنيس البلد من الفساد وطغمة الفاسدين؟!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى