أولىمقالات وآراء

عقليّة الثأر والمصالح العليا

سعاده مصطفى أرشيد

لا ريب في أن مستلزمات الأمن القومي مسألة تحرص عليها الدول، كما تعرف بدقة مصالحها العليا بعيداً عن ثقافة الارتجال والمزاج او التسرّع. ولعل أخطر ما يشوش هذه الرؤية، هو عندما يعتقد الحاكم أن كرامته الشخصية لها الأولوية على مصالح بلده، او عندما يعتقد ان امنه وبقاءه هو او حزبه الحاكم ونظامه القائم لهم أولوية تتفوق على أولويات الامن القومي والمصالح العليا لبلده، فبقاؤه أهم من بقاء الوطن.

يوماً بعد يوم تتكاثف الإشارات التركية حول مقاربتها للملف السوري لا بل وتتناقض، من ذلك ما صرح به جاويش اوغلو عن لقائه بالمقداد او ما قاله الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية بأن المصالحة السورية التركية تسير قدماً, ثم تعود تصريحات لتتحدث عن عملية عسكرية في الشمال السوري او عن قصف تركي للمواقع العسكرية للجيش السوري, فإلى أين تذهب هذه السياسات حقيقة، وما الداعي لهذه الاشارات التي لا اظنها تدل على حيرة بقدر ما هي ناجمة عن حسابات، حزب العدالة واردوغان كان قد سبق لهم ان مارسوا تعبئة سياسية وعقائدية ومذهبية لقواعدهم استهدفت شيطنة سورية. هذه القواعد تحتاج الى وقت لإعادة تعبئتها بالاتجاه الجديد التصالحي، هذا مدخل المقال لفهم أسباب تناقض التصريحات.

الاستدارة التركية تجاه سورية تسير بتسارع أكبر مما يظهره الإعلام وبرعاية إيرانية روسية. المصالح الروسية الإيرانية عامل مهم في ترميم هذه العلاقة وكانت محوراً مهماً في قمة سوتشي ثم في قمة طهران, ولكن الأسباب الداخلية التركية مهمة ايضاً سواء تلك المتعلقة بأزمة المهاجرين السوريين وتنافسهم الذي أصبح واضحاً مع ازدياد عددهم وطول بقائهم مع المواطن التركي الذي اصبح يرى فيهم مصدر ازعاج لرزقه ومسكنه, او ما يتعلق بالحذر التاريخي من الحركات الانفصاليّة وخاصة الأكراد الذين اصبح لديهم إدارة ذاتية برعاية وحماية أميركية في منبج وتل رفعت وغيرهما, وأخيراً علاقة ذلك بالانتخابات الرئاسية في حزيران غير البعيد, لكن هذه الاستدارة قد تتخطى ذلك. فالدولة التركية العميقة وباقي مكونات الحياة السياسية في تركيا من أحزاب وجمعيات وصناديق مالية وشركات ترى أهمية العودة عن السياسات المعادية لدمشق, أنها حيوية سياسية عالية يبديها المجموع التركي, وقدرة هذا المجموع على التعاطي مع الحقائق والوقائع دائمة الحركة والتغير, في المقلب الآخر تتلقى تركيا ردوداً مستجيبة من دمشق وإن حذرة خفيضة الصوت, فدمشق مثلها مثل أنقرة تتقن السياسة وتمارسها بمهارة وفق قوانينها وقواعدها التي تحقق لها مصالحها العليا بعيداً عن نزق الغضب وصيحات الثأر من السلوك التركي المؤذي طيلة اثني عشر عاماً من عمر الازمة في الشام.

الإشارات السورية (الردود) واضحة، وهي في معظمها نهائية لا تفاوضية، استعادة كامل سيادتها على أرضها التي احتلتها تركيا او اقامت بها إدارة ذاتية بحمايتها، عدم التدخل التركي بشؤونها الداخلية والتوقف عن دعم جماعات التكفير والإرهاب التي أشرفت عليها تمويلاً وتسليحاً واستخبارياً المخابرات التركية، وكذلك ما أطلقت عليه انقرة اسم الجيش الحر، وحلّ مشاكل المياه العالقة من زمن طويل ومنذ أخذت تركيا بسياسات أحادية الجانب واقامت مشاريع وسدوداً عملاقة على منابع دجلة والفرات.

كان التمهيد لهذه الاستدارة التركية عندما اعادت الأخيرة ترميم علاقاتها بالقاهرة والرياض, وبالطبع مع (إسرائيل) وعادت للحديث عن المشاريع المشتركة مع تل أبيب في مجالات ثنائية وأخرى تكون السلطة الفلسطينية شريكة ثالثة بها, تشمل المشاركة الثنائية خطوط المواصلات وسكك الحديد التي سوف تربط بين الموانئ التركية وميناءي حيفا واشدود, من حيفا الى الأردن ووصولاً الى غاياتها النهائية برا, ومن اشدود الى العقبة ومنها الى غاياتها النهائية بحراً, تريد تركيا في الأساس اجتراح خطوط مواصلات موازية لقناة السويس، ولكن أسرع زمناً وأقل كلفة, كما في العودة للعمل على اكمال بناء المنطقة الصناعية ثلاثية المشاركة في شمال الضفة الغربية, قرب جنين وبمحاذاة حدود عام 1967, والتي توقف العمل بها منذ الانتفاضة الثانية.

مع إعادة ترميم العلاقات التركية المذكورة أعلاه، فان الاتراك يدركون أهمية واستراتيجية خطوط المواصلات ولا يريدون ان يضعوا زمامهم بيد المصري في قناة السويس او (الاسرائيلي) في الخطوط المذكورة، فأفضل الطرق تلك البرية عبر تل رفعت ومنبج، بهذا يكون التركي قد وزع البيض على سلال عديدة، والاستعجال بالمصالحة مهم للشركات التركية التي تريد حصة في إعادة إعمار ما دمره جيشها ومرتزقتها، والاستعجال مهم كورقة انتخابية في حزيران حيث يجب على دمشق أن تكون قد حققت ما يمكنها قبل هذا الموعد.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفيرجنينفلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى