أولى

الرحيل أفضل لكم…

} بشارة مرهج*

حققت المسيرة البحرية التي انطلقت يوم الأحد الواقع فيه 4 أيلول 2022 من طرابلس الى الناقورة، مروراً بعمشيت وجبيل وبيروت والجية وصيدا وصور، نجاحاً باهراً في تكريس حق لبنان بمياهه وثرواته إذ أعلنت للملأ استعداد الشعب اللبناني للدفاع عن هذا الحقّ وإيصاله الى برّ السلامة مهما كانت الأمواج عاتية ومهما كانت الظروف قاسية. فلبنان اليوم بفضل شعبه ومقاومته وجيشه موجود على الخريطة بقوة ويتمسّك بكلّ ذرة من ترابه وبكلّ نقطة من مياهه، مدركاً في الوقت نفسه صعوبة الأوضاع وإصرار الحلف الأميركي ـ «الإسرائيلي» على المناورة والخداع، كما كان دأبه خلال العقود الماضية التي عمل فيها على حرمان لبنان من استثمار موارده وتنمية اقتصاده.

وإذ تتجه هذه الحقبة الى الزوال بالتزامن مع التسليم بحقّ لبنان في مياهه الإقليمية ومنطقته الاقتصادية الخالصة، فإنّ المسؤوليات الملقاة على العهد جسيمة وماثلة وانْ كان في آخر أيامه يعيش مع القوى السياسية التقليدية صراعات تتصاعد يوماً بعد يوم، ويغلب عليها الطابع الذاتي الذي لا يتصل بمهام المرحلة ومقتضياتها في المعالجة السياسية للأزمة الخانقة التي تزداد حدّتها بسبب تعنّت المنظومة الحاكمة وإنكارها للحقيقة ورفضها الاعتراف بمسؤوليتها عن الانهيار الشامل الذي أدّى الى إفقار اللبنانيين وسلبهم ثرواتهم ومدّخراتهم.

أما الجريمة الأكبر التي تقع على عاتق هذه المنظومة وتجعلها غير مؤهّلة للمتابعة يوماً واحداً في إدارة شؤون البلاد فهي تعطيلها للمؤسّسات ومعها السياسة في بلد يتنفس سياسة ويحتاج، بسبب تركيبته المعقدة وقوانينه الملتبسة، الى معالجات سياسية من الوزن الثقيل كي يستطيع البقاء ومن ثم التفكير بتحسين شروط هذا البقاء الموصول بأسلاك مكهربة مشدودة بدورها الى فواصل تهتزّ باستمرار بين أيدي الزعامات والمقامات الخائفة على مكانتها ودورها ومصالحها في ظلّ التطورات النوعيّة السريعة التي يشهدها الإقليم ومعه العالم بأسره.

وإذا كان البعض لا يزال يؤمن بأنّ السياسة هي حرفة تكديس المال الحرام وفنّ التهرّب من المسؤولية فهو مخطئ يستمرئ العيش في الجهل والضلال، إذ لا معنى للسياسة ما لم تكن مرتبطة بزيادة الإنتاج وتنظيم شؤون المجتمع وحماية الحريات ورفع مستوى التعليم والتحسّب للمخاطر والكوارث فضلاً عن محاربة الاحتلال والاحتكار والفساد. ولا معنى للسياسة ما لم تبادر كلّ السلطات «المتعاونة» بحسب الدستور، الى إقالة القضاء من عثرته ودعمه وتكريس استقلاله ليكون الهيئة الجسورة الرافضة للتدخلات، المصمّمة على حماية معنى وجودها، وحماية اللبنانيين من أيدي الحكام والنافذين، وتخليص حقوقهم من أيدي العتاة والطغاة الذين ملأوا الأرض جوراً وفساداً.

كما لا معنى للسياسة اليوم ما لم تُكشف كلّ الحقائق والفضائح المصرفية ويفصح التحقيق المحاسبي الجنائي عن كلّ الملابسات والاختلاسات التي أدّت الى وصم لبنان ومؤسساته الحاكمة بأبشع الصفات.

ولا معنى للسياسة اليوم ما لم تتم إدارة المال العام، إنفاقاً واستثماراً، بأفضل طريقة ممكنة في كلّ المجالات بحيث يكون المردود مجزياً للخزينة والاقتصاد.

ولا معنى للسياسة اليوم ما لم تفتح نافذة نحو المستقبل تعيد الأمل للشعب اللبناني بحقه في دولة عادلة تساوي بين اللبنانيين وتحاسب كلّ المسيئين وتُعيد الأموال التي سلبت الى أصحابها الحقيقيين.

لكلّ ذلك يستغرب الجمهور اللبناني ومعه الهيئات العربية والدولية الخطاب السياسي السائد الذي يدور في فلك الاتهامات والذاتيات والتفلت من المسؤوليات بينما الحاجة تبدو ماسة للبحث اليومي في الأرقام ومشاريع القوانين وابتكار الخطوات والتدابير التي تكفل النهوض من العتمة والخروج من المأزق والتغلب على البؤس الزاحف بسرعة الى المدارس والجامعات والبيوت والدوائر الحكومية فضلاً عن الشركات والأسواق والمرافق العامة بهمة من يدّعي الإخلاص للبلد وأهله ومصالحه.

باختصار شديد إنّ الطبقة التي تصرّ على العيش في الماضي وفي ظلّ شروطه وعاداته وسيئاته وترفض ايّ شكل من أشكال الرقابة أو المساءلة لا حقّ لها في الاستمرار بتولي السلطات العامة بعدما حوّلتها الى مزارع خاصة. حقها الوحيد هو التنحي والرحيل ودفع ما يترتب عليها من ديون معنوية ومادية تجاه الدولة والناس والمؤسسات.

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى