مقالات وآراء

هل يجوز التشريع في ظلّ «الشغور الرئاسي»؟

د. جهاد إسماعيل*

كما في كلّ استحقاق دستوري، ينهض الخلاف على إمكانية المؤسسات الدستوريّة في ممارسة صلاحياتها وفق المسار الطبيعي للأمور، ويترتب، إثر هذه الإشكاليّة، تساؤلات حول سلطة مجلس النواب في التشريع عند تعذّر تطبيق المواد 49، 73، 74، 75 من الدستور، وسطَ انقسام واضح بين الفقهاء في القانون الدستوري في شأن ممارسة الوظيفة التشريعية في ظلّ الشغور الرئاسي

فيرى البعض أنّ المادة 75، بنصّها التالي: «المجلس النيابي الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعدّ هيئة انتخابية لا هيئة تشريعية، فيتوجب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس للجمهورية دون مناقشة أو أيّ عمل آخر»، لا تجيز التشريع في حالة الشغور، كما يظهر في صراحة النصّ، لأنّ المجلس يتحوّل إلى هيئة انتخابية، ويدعم هذا الاتجاه حجته بالمسوغات التالية:

اولاً: لرئيس الجمهورية، عملا بالمادة 57 من الدستور، صلاحيّة ردّ القوانين الّتي يقرّها مجلس النواب، وبالتالي إنّ جواز التشريع في ظلّ شغور سدة الرئاسة يعني انتهاكاً واضحاً لمبدأ التوازن بين السلطات المكفول في مقدمة الدستور..

ثانياً: يعود لرئيس الجمهورية، عملاً بالمادة 19 من الدستور، حق مراجعة المجلس الدستوري من أجل إبطال القوانين الّتي يقرها مجلس النواب، ما يعني أنّ جواز التشريع، خلال فترة الفراغ الرئاسي، من شأنه يحرم رئيس الجمهورية من هذا الحق..

ثالثاً: لمّا كان رئيس الجمهورية، بحسب العرف الدستوري، ممثلاً للمسيحيين، في الدولة اللبنانية القائمة على التعددية، فإنّ جواز التشريع، خلال فترة الشغور، يعني طعناً بالميثاقيّة..

أما البعض الآخر يرى بأنّ عبارة «التئام مجلس النواب كهيئة ناخبة لا تشريعية» تعني انه عند انعقاد جلسة الانتخاب تحديداً يصبح البرلمان هيئة انتخابية، ويمتنع عليه القيام بأيّ عمل تشريعي أو أيّ عمل آخر طيلة انعقاد الجلسة، حيث، بمقدوره، في جلسة أخرى غير مخصصة لانتخاب الرئيس أن يمارس العمل التشريعي في حدود الضرورة

ونحن مع ما أدلى به الاتجاه الثاني، أيّ في جواز التشريع عند وقوع الفراغ الرئاسي، وذلك، برأينا، للأسباب او الحُجج التاليّة:

ـ عودةً إلى نصّ المادة 75 نجد بأنّ المشرّع الدستوري أوجب، خلال فترة الئتام المجلس لانتخاب رئيس الجمهورية، بعدم جواز مناقشة أيّ عمل آخر، وهذا الحظر يستقيم في جلسة الانتخاب بعينها لا في فترة الشغور الرئاسي الّتي قد تطول لأشهر او لسنة أو اكثر، ذلك أنه يستحيل ان يحظّر المشرّع الدستوري على التزام رسمه في مواد دستورية مماثلة كصلاحية مراقبة او محاسبة الحكومة على سبيل المثال لا الحصر، وهو التزامٌ يسقط عند التسليم مع ما أدلى به الاتجاه الأول، ما يغاير المنطق واحكام الدستور على حدٍّ سواء

ـ في قراءة متأنيّة ومترابطة لكلّ احكام الدستور يتبيّن لنا بأنّه لم يحجب التشريع عن مجلس النواب خلال استحقاقات دستوريّة مماثلة، إنما جلّ ما أوجبه هو تقييد التشريع لا منعه وذلك عملاً بالمادة 59 من الدستور عندما يمارس رئيس الجمهورية صلاحية تأجيل انعقاد المجلس إلى أمد لا يتجاوز شهراً واحداً، كذلك عملاً بالمادة 32 من الدستور بنصّها: «يجتمع المجلس في كلّ سنة في عقدين عاديين فالعقد الأول يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار والعقد الثاني يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول وتخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كلّ عمل آخر وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة»، وهو قيدٌ، على أيّ حال، يجد أساسه في مواد دستورية أخرى (83، 84، 85، 86، 87.)، انطلاقاً من أهمية الموازنة في حياة الدولة المالية، إنما لا يجيز تفسير عبارة «التئام المجلس كهيئة انتخابية..» في إطار «الدورة أو العقد الاستثنائي او الحكمي»، كون هذا التفسير يقود إلى تغيير ماهية ومضمون المادة 32، وابتكار دورة استثنائية تخرج، أساساً، عن احكام الدستور..

ـ إنّ الوظيفة التشريعيّة، خلال فترة الشغور الرئاسي، كما في حالة الوظيفة التنفيذيّة، مدعوة لأن تمارس في حدودها الدنيا لا القصوى، لئّلا تحلّ سلطة دستوريّة محلّ سلطة أخرى، ذلك أن المادة 62 من الدستور، وإن أناطت صلاحيات رئيس الجمهوريّة بمجلس الوزراء وكالةً، لكنها، نظرياً وعملياً، وسيلة من أجل تحاشي الفراغ في المؤسسات الدستورية لا من اجل تكريسه في تقويض موقع رئاسة الجمهورية.

والضرورة نفسها تجيز للمجلس النيابي تشريع قوانين ملّحة تؤدي، في هذه الحالة، إلى نشوء حق الحكومة، بصورة استثنائية، عملاً بالمادة 62 من الدستور، إلى ممارسة صلاحيات رئاسة الجمهورية في ردّ القوانين إلى المجلس لإعادة درسها، أًسوةً بالنظر في دستوريتها امام المجلس الدستوري، وهذا ردٌ على ما ذهب به الاتجاه الأول من اجل حجب التشريع

ـ  إنّ نظريّة «التوازن بين السلطات»، المكفولة في مقدمة الدستور، الّتي يزعم بها الاتجاه الأول في حجب التشريع، تُدحض انطلاقاً من أنها تؤدي، عند العمل بها، خلال وقوع الشغور، إلى إلغاء سلطة أخرى( تشريعيّة)، إلى جانب «رئاسة الجمهورية»، وهو إلغاءٌ يهدم المؤسسات الدستوريّة، وتالياً الدستور.

ـ مثلما منحت أحكام الدستور الحقوق والواجبات للمؤسسات الدستوريّة، فإنّها أيضاً كفلت حقوق الطوائف، في المواد 9، 22، 24، 95، وهي كفالةٌ مرسومة في إطار المؤسسات الدستوريّة لا من خارجها وفق الفقرة «ي» من مقدمة الدستور «لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»، ما يدحض ذريعة «الميثاقية» المزعومة من أجل منع التشريع عند وقوع الشغور الرئاسي، على اعتبار أنّ المشكلة تكمن في تطبيق النصوص لا في النصوص نفسها، علاوةً على أنّ المشرّع الدستوري قد أوْلى مبدأ استمرارية المؤسسات على كلّ الاعتبارات، بما يظهر جلياً في نصوص الدستور، كما في قرارات المجلس الدستوري اللبناني

بناءً عليه، يستطيع المجلس النيابي أن يمارس وظيفته التشريعية المكرّسة في المادة 16 من الدستور حتّى في ظل الفراغ الرئاسي، انما في إطار الضرورة كما اسلفنا الذكر، لئلا يصبح موقع «رئيس الجمهورية»، المؤتمن على حماية الدستور عملاً بالمادة 50، تفصيلاً، بما يغيّر من هوية الكيان اللبناني في مجمل صوره، ويضرب، استطراداً، القواعد الدستوريّة

*كاتب وباحث في القانون الدستوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى