أولى

أيّ رئيس للجمهورية نريد…؟

} د. عدنان منصور*

مع اقتراب انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، بعد ستّ سنوات عجاف، تحلل في الوطن كلّ شيء: هيبة الدولة، ومؤسساتها، ومجالسها، وقضاؤها، وتمّ العبث بدستورها، وقوانينها، وأنظمتها، وإداراتها.

 ست سنوات، سقط فيها الحاكم والمسؤول، وتعطلت فيها العدالة، وحقوق المواطن، ودمّرت فيها حياة شعب بأكمله، وتصدعت القيم الوطنية، والروحية، والأخلاقية.

 سنوات عجاف، جعلت من لبنان نموذجاً فريداً من الفساد والانهيار في العالم، يتندّرون به، وبوقاحة من أداره، واستغله، ونهبه من حكام ومسؤولين، ووحوش مال، سرقوا شعبه في وضح النهار.

 سنوات عجاف لا زالت تفعل فعلها في النفوس وعلى الأرض، نتيجة استمرار أخطبوط الطغمة السياسية، بقبضه على مفاصل الدولة ومراكز القوى فيها، وانْ تغيّرت الوجوه، واستبدلت الأقنعة، وجيء بالأقزام، والفجرة من مقاولي السلطة، وسماسرة مؤسساتها.

 المنظومة السياسية منهمكة اليوم في البحث عن رئيس جديد للجمهورية، وأيّ رئيس؟! ما هي مواصفاته العظيمة، المتميّزة، الاستثنائية التي تبحث عنها، لتطلّ بها على العالم الذي يمقتها، ويستخفّ بها أساساً، ويحتقرها، بما لديه من سجل حافل عنها، لا يشرّفها ولا يشرّف الشعب اللبناني؟

هل تريد الزمرة السياسية رئيساً منقذاً ينتشل لبنان من الجحيم الذي هو فيه، ويضخ الدم النقي في شرايينه من جديد!

 هل تريد المنظومة فعلاً التي تتحمّل المسؤولية الكاملة، وكانت العلة الرئيسة في ما وصلت اليه أوضاع البلاد، شخصية قوية مستقلة، على مسافة واحدة من الجميع، مرهوب الجانب، بانياً للدولة، متصدّياً للفاسدين، والعابثين بمصالح البلد؟

 هل تريد الطغمة السياسية التي أوصلت البلد الى الحضيض، ودمّرت فيه كلّ شيء، رئيساً للجمهورية يكون حراً، غير مقيّد أو مكبّل اليدين، بعيداً عن مراكز النفوذ، والتأثير، مترفعاً عن اقتسام الحصص، والصفقات والمغانم؟!

 هل تتطلع المنظومة السياسية الى رئيس يحرص كلّ الحرص على سيادة لبنان، وثرواته، وقوة جيشه، ومقاومة شعبه، ويتصدّى للإملاءات والضغوط الخارجية التي تصادر القرار اللبناني الحرّ المستقلّ، ويلجأ للخيارات البديلة مع الدول الشقيقة والصديقة التي تلبّي وتخدم مصالح لبنان الحيوية !

 هل يناسب المنظومة الحاكمة التي أغرقت اللبنانيين في مستنقع الفقر، والذلّ والإفلاس، أن تأتي برئيس يضعها عند حدّها، ويكشف دورها، وألاعيبها، وأساليبها القذرة في سرقة وطن وشعب، ويوقف سمسراتها وصفقاتها، وتعدّيها على الأموال العامة والخاصة، ويلاحقها أمام القضاء، ومحاكمتها، والاقتصاص منها؟!

هل تبحث المنظومة عن مواصفات رئيس على قياس الوطن، ليكون رائداً في مجال إصلاح الدولة، والسير بخطى ثابتة في مجالات التنمية، والحوكمة الرشيدة والتغيير، وملاحقة تجار الوطن، أم أنها تبحث عن رئيس من الصف الثاني والثالث والرابع، يكون ظلها، وعلى قياسها، لا حول ولا قوة له، يصرخ ولا من مجيب، ينادي ولا من يسمع، يطالب ولا من يستجيب. ويكثر في الوعود، دون تنفيذ، لتبقى كالسراب يقرب علينا البعيد، ويبعد عنا القريب !

 أتريد المنظومة السياسية القابضة بكلّ شراسة على الدولة العميقة، رئيساً له مواصفات الهواء، لا لون له، ولا رائحة له، ولا طعم له، تتنفس فقط من خلاله، ويكون رئيساً صورياً يحكم بتوجهاتها، ويغضّ الطرف عن أفعالها، وسيئاتها، ويكون لها غبّ الطلب وحين تدعو الحاجة، يغطي فضائحها وعيوبها في ما تقوم به، ليصبح كالملك الذي يملك ولا يحكم، وأن يرى بصمت ما يجري داخل البلاد، ليكون بعد ذلك في موقف مشابه لعملاق الكوميديا عادل إمام في مسرحيته «شاهد ما شفش حاجة»!

 بعد كلّ هذه السنوات العجاف، ألا يحقّ لنا كشعب لبناني، مثل سائر الشعوب اليقظة الواعية الحرة في العالم، ان نطمح، ونتطلع الى مواصفات عالية نريدها في رئيس الجمهورية القادم؟!

 نريد رئيساً وطنياً بحقّ، شجاعاً، لا يتردّد، ولا ينجرف، لا يتخبّط، ولا يتهوّر. رئيساً لا يحكم بمزاج عصبي، او في ظلّ شبح مجهول او معلوم. نريد رئيساً قوياً لكلّ الشعب، دون تمييز بين طائفة وأخرى، او بين مدينة ومدينة، جديراً، نزيهاً، عادلاً، شفافاً، واسع الأفق، حامياً وداعماً للقضاء النزيه، الذي هو أساس الدولة وشفافيتها وعدالتها، واستمراريتها، يلاحق كلّ فاسد مهما علا شأنه، ولا نريد رئيساً لطائفة أو حزب أو منطقة، أو عائلة. نريد رئيساً لحماية المظلومين، والمقهورين، والمعذبين، والغرباء في وطنهم، لا رئيساً للزبانية، والحاشية والخواص، والأقربين والمحظوظين، والمتسلقين!

نريد رئيساً ان يكون رافعة للوطن، لا عبئاً ثقيلاً عليه، يأخذه بعقله وقلبه، لا بانفعالاته وعناده وعنجهيته! رئيساً لا يرضي هذا، ويغضب ذاك، أو يحابي طرفاً ويعادي آخر!

 نريد رئيساً يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، يحيط به المستشار الحكيم، والمسؤول النظيف، والإداري  الكفؤ، والعالِم،

والمبدع، والمفكر، لا يهيمن على عمله وأدائه أحمق متهوّر من المقاولين السياسيين او المقرّبين!

 نريد رئيساً قوياً يدافع بكلّ حزم عن سيادة لبنان، يتصدّى لنفوذ وإملاءات الدول، وتعليمات السفارات، ومواعظ السفراء، والضغوط الخارجية والتدخل في شؤونه الداخلية.

 نربد رئيساً يصون لبنان بجيش وطني رادع، وبمقاومة شعب يدعمه ويقف الى جانبه، عند حصول أيّ مواجهة مع العدو «الإسرائيلي» المتربص بأرضنا وثرواتنا.

 إنهم يبحثون عن مواصفات رئيس في «مختبر» صنع الرؤساء، ولا ندري إذا كان المختبر يعمل فيه «اختصاصيون» لبنانيون فقط، أم أنّ هناك «اختصاصيون» من الخارج ذوي «كفاءات» عالية تشارك وتفعل فعلها داخل المختبر؟!

 إنهم يريدون رئيساً للبنان يرضي الجميع ولا يغضب طرفاً. رئيس يجمع المتناقضات تحت جناحه، مسالماً، مهادناً، وأن يكون على استعداد لمحاباة الجميع دون قيد أو شرط، ويغضّ الطرف عنهم، يلبّي رغباتهم ومطالبهم وإنْ جاءت على حساب مصالح الوطن والشعب.

 يخطئ من يظن انّ السنوات العجاف يتحمّل مسؤوليتها من هو في سدة الحكم ويستعدّ للمغادرة، فهذا ظلم كبير له وللوطن، ولا يعكس واقع الأمور وحقيقتها، لأنه بتحميله كامل المسؤولية، إنما نتجنّى عليه، وعلى الحقيقة، وعلى الوطن، لأننا بذلك، نعطي صكّ براءة، لأركان المنظومة السياسية الحاكمة، على مدى السنوات الستّ العجاف، إذ يتحمّلون جميعهم المسؤولية الكبرى عما آلت اليه البلاد من انهيار كلي. فلا يحقّ لهم مطلقاً تنزيه أنفسهم، بأيّ شكل من الأشكال، وإدانة الآخرين، قبل إدانة أنفسهم.

 إنه استحقاق كبير لإخراج لبنان وشعبه من المستنقع الذي وضعته فيه طغمة مجرمة عن سابق تصوّر وتصميم، تجاوزت الدستور والقوانين، والمحرّمات، والأعراف، وهي التي تحاول اليوم، أن تنسج وتخيط رئيساً جديداً للبلاد تأتي به الى سدة الحكم لتقول أنه «صُنع» في لبنان!

 فأيّ رئيس ينتظره لبنان واللبنانيون لينقذهم من الجحيم الذي وُضعوا فيه، وهم الذين أخذوا علماً مسبقاً به…!

انّ المنظومة السياسية القابضة على الدولة ومتفرّعاتها، هي بمثابة الثقب الأسود، ما ان يقترب منها ايّ مسؤول شريف يريد الإصلاح وبناء البلد وتنميته، تشفطه وتبتلعه على الفور.

 هل سيأتينا رئيس للجمهورية، يفلت من الثقب الأسود، لينقلنا من الجحيم الى النعيم، أم انه كتب على اللبنانيين أن يتخدّروا، ويتأقلموا مع منظومتهم الحاكمة وجحيمها، فيما هم يعكسون مرآة المقولة الحكيمة: كما تكونوا يولى عليكم!

دعونا نحلم ولو بالقليل

 

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى