مقالات وآراء

الأزمة ببُعديها الداخلي والخارجي…

} ابراهيم ياسين

يشهد لبنان منذ سنوات أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وخدماتية، يفاقم منها صراعات الطبقة السياسية وطبيعة نظام الحكم الطائفي الموَلّد للأزمات، والحصار الأميركي المفروض على البلاد في سياق الخطة الأميركية الصهيونية لمفاقمة الأزمة وتحميل المسؤولية عنها للمقاومة والقوى المؤيدة لها.

على أنّ هذه الأزمة التي يشهدها لبنان هي استمرار للأزمة التي انفجرت عام 2005 على اثر إصدار قرار مجلس الأمن 1559، ومن ثم اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في سياق المشروع الأميركي لفرض السيطرة على لبنان والقضاء على المقاومة عبر محاصرتها بالفتنة المذهبية بهدف نزع سلاحها، والذي فشل في تحقيق كلّ أهدافه المذكورة، لا سيّما بعد انتصار المقاومة الاستراتيجي والتاريخي في مواجهة العدوان الصهيوني على لبنان في تموز 2006، والذي تمكّنت المقاومة خلاله من فرض معادلات ردعية شلت من قدرة العدو في الاعتداء على لبنان وتحقيق أطماعه التوسعية في الأرض والثروات اللبنانية، وهي المعادلات التي نجحت المقاومة في تكريسها وتوسيعها منذ ذلك الوقت والذي يُترجم الآن في البحر لتحصيل حقوق لبنان في ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة وفرض رفع الحصار الأميركي ـ الصهيوني الذي يمنع الشركات الأجنبية من البدء في التنقيب عن النفط والغاز في الحقول اللبنانية.

الأزمة في بعدها الداخلي: لا شكّ بأنّ الأزمة التي تعصف بالبلاد على المستويات كافة، هي أزمة غير مسبوقة من ناحية حدتها وإنعكاساتها على قيمة العملة الوطنية المتدهورة في شكلها الكبير على الإقتصاد الوطني واستطراداً على القدرة الشرائية للمواطنين والتي شهدت تراجعاً خطيراً في السنتين الأخيرتين، مما فاقم من الأزمة الاجتماعية والمعيشية والخدماتية على نحو خطير. هذه الأزمة التي جاءت وليدة تراكم ناتج عن عدة أسباب:

السبب الأول، السياسات الحكومية المتعاقبة لا سيما الحكومات الحريرية التي انتهجت سياسات نيوليبرالية متوحشة همّشت الاقتصاد الإنتاجي لمصلحة الاقتصاد الريعي، وأطلقت يد الشركات الخاصة في الاستيلاء على القطاعات الخدماتية المربحة في الدولة، وانتهجت سياسة مالية قامت على تثبيت سعر الصرف عبر رفع الفوائد على سندات الخزينة مما أغرق لبنان بالديون الداخلية والخارجية وأدّى إلى عجز كبير في الموازنة العامة، وفرض المزيد من الضرائب الغير مباشرة، التي لا تُميّز بين أصحاب الدخل المحدود من الطبقات الشعبية والطبقات الغنية ذات الدخل المرتفع، الأمر الذي وسّع وعمّق الهوّة الاجتماعية وزاد من نسبة العاطلين عن العمل لا سيّما بين المتعلمين من حملة الشهادات مما زاد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً، وأدى إلى تآكل مُدّخرات الدولة وإضعاف قدرتها المالية.

السبب الثاني: الصراعات بين الأطراف والقوى السياسية الحاكمة، إنْ كان نتيجة الصراع على المصالح والحصص أو نتيجة المناكفات السياسية مما أدّى ويؤدّي إلى مزيد من الشلل في عمل مؤسسات الدولة وأدائها الخدماتي، ويتجسّد ذلك بشكل واضح في استمرار وتفاقم أزمة الكهرباء وترك المواطنين عرضة لابتزاز مافيا المولدات وشركات النفط الخاصة وغيرها من الاحتكارات التي باتت تسيطر بشكل شبه كامل على القطاعات الأساسية التي تُعنى بحياة اللبنانيين ومعيشتهم.

السبب الثالث: طبيعة النظام اللبناني الطائفي الذي كُلّما انفجرت أزمة في البلاد ظهر حجم دور هذا النظام في مُفاقمتها لأنه قائم على استقرار هش غير دائم ومَبنيّ على المساكنة والتعايش القلق بين الأطراف الطائفية المسيطرة والتي يحكمها الصراع على الحصص تارة، والمصالح تارة أخرى، والسعي إلى تحوير الصراع من صراع سياسي اقتصادي اجتماعي إلى صراع طائفي ومذهبي لعرقلة التغيير والحفاظ على مصالحها ونفوذها في السلطة.

البعد الخارجي للأزمة: من المعروف بأنّ انفجار الأزمة

 الداخلية إنْ كان عام 2005 أو 2019 ترافق مع التدخل والضغط الخارجي لا سيّما الأميركي الذي يسعى إلى إحداث انقلاب على المعادلة السياسية في البلاد لمحاصرة المقاومة ونزع سلاحها، وبالتالي إخضاع لبنان بالكامل للهيمنة الأميركية، ولهذا كان هناك ترابط بين الأزمة الداخلية والتدخل الخارجي الذي كان يُغذي هذه الأزمة على كافة المستويات السياسية والمالية والاقتصادية والخدماتية من خلال:

1 ـ تبني الحكومات اللبنانية المتعاقبة على الحكم للسياسات الاقتصادية والمالية التي تربط لبنان بالتبعية للاقتصاد الرأسمالي الغربي والأميركي.

2 ـ فرض الحصار الاقتصادي والمالي على لبنان والذي تجسّد في منع التحويلات وإفلاس بعض المصارف كبنك الجمّال مثلاً، وعرقلة أيّ مشاريع لحلّ الأزمات تقدّمها الدول الشرقية كروسيا والصين وإيران لحلّ الأزمات التي يعاني منها لبنان، وعرقلة نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية إلى لبنان لحلّ جزء من أزمة الكهرباء في لبنان.

على أنّ انفجار الأزمة في لبنان وزيادة منسوب التدخل الخارجي في لبنان لمفاقمتها كان ولا يزال يتزامن مع انفجار الصراع الإقليمي والدولي مما يجعل من لبنان خط تماس في هذا الصراع بسبب وجود أطراف سياسية محلية على علاقة مع الغرب الاستعماري، وببعض الدول العربية ذات الهوى الغربي الأميركي تحديداً، وأخرى متشابهة سياسياً وفكرياً تعارض الغرب وتحديداً الأميركي وتساند روسيا والصين وتحديداً إيران وسورية، مما يؤدي إلى اهتزاز الاستقرار في البلاد.

على أنّ العامل الجديد الذي حال ويحول دون نجاح أميركا وحلفائها الغربيين في الاستفادة من الأزمة لتنفيذ الانقلاب السياسي في البلاد إنما هو وجود المقاومة التي نجحت إلى حدّ ما في تشكيل معادلات الردع في مواجهة كيان الاحتلال الصهيوني وفي فرض التوازن في مواجهة القوى التابعة للغرب ولجم خططها في محاولة إثارة الفتنة وجرّ البلاد إلى حرب أهلية جديدة. هذا العامل الذي شكلته المقاومة أسهم في درء الأخطار عن لبنان لكنه غير كاف لوحده لإخراج البلاد من الأزمة لأنّ الأمر يستدعي إلى جانب العامل الإيجابي الذي تلعبه المقاومة في حماية لبنان وثرواته (في غياب استراتيجية دفاعية مقاومة متعددة الأشكال والقطاعات، وفي ظلّ تخاذل السلطة عن تسليح الجيش وإمداده بالسلاح والعتاد ليقوم بواجبه في الذوْد عن حياض الوطن وشعبه وثرواته وأراضيه، وفي حماية السلم الأهلي) توافر موازين قوى داخلية تعزز هذا الاتجاه الذي تمثله المقاومة من خلال انحياز أطراف أساسية إلى جانبه.

لكن للأسف الصراعات والمناكفات السياسية حتى بين أطراف مؤيدة للمقاومة يحول دون ذلك ويجعل المقاومة توظف جهوداً استثنائية لاحتواء هذه التناقضات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى