أولى

أين يُصرَف هذا الكلام… خطاب في الجمعيّة العموميّة!

} سعادة مصطفى أرشيد*

 

قبل عام مضى ألقى الرئيس الفلسطيني خطاباً مطولاً في افتتاح أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة أطلق فيه تحذيراً شديد اللهجة لدولة الاحتلال مانحاً إياها مهلة عام لتنسحب من كامل الأراضي التي احتلتها عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ولا أذكر على وجه الدقة إنْ كان قد صدر بيان أو تصريح لفظي عن حكومة الاحتلال رداً على هذا التحذير.

لم يلحظ الفلسطيني أنّ حكومته قد قامت بنشاط من أيّ نوع استعداداً لفعل ما في حال لم تلبّ دولة الاحتلال الطلب الفلسطيني وإنما سارت الأمور كالمعتاد، ولكن الحكومة (الإسرائيلية) جاء ردّها بالفعل لا بالقول، فصعّدت من رعايتها للهجمة الاستيطانية ومصادرة الأراضي، وموّلت بناء وحدات سكنية استيطانية في مستوطنات الضفة الغربية وعلى شكل تدنيس المسجد الأقصى ويومياً وبأعداد غير مسبوقة من غلاة المتديّنين الذين تترافق صلواتهم التلمودية بالاعتداء على المصلين الفلسطينيين، أما الجيش والأمن فقد أصبحت اجتياحاته أمراً يحدث في كلّ ليلة اجتياحاً واقتحاماً لمدينة أو قرية أو مخيم وباغتيال بواقع فلسطيني واحد على الأقلّ يومياً.

قبل أيام ومع انتهاء مهلة السنة التي حدّدها الخطاب السابق للرئيس، عاد وألقى خطاباً جديداً وعلى المنبر ذاته وفي القاعة ذاتها التي كادت أن تكون خالية، جاء الخطاب من جزءين الأول تاريخي عاطفي والثاني سياسي، في الجزء الأول تحدث عن مظلومية الشعب الفلسطيني وما عانى ويعاني من قتل واحتلال وانتهاك لا لحقوقه الوطنية فحسب وإنما لحقوقه كإنسان، لكن الجمعية العمومية ليست منبراً إنسانياً أخلاقياً بقدر ما هي منبر سياسي أممي مما جعل القسم الثاني من الخطاب (السياسي) هو الأهمّ، وقد جاء إشكالياً يفتقد إلى الربط مع الجزء الأول كما عن خطاب العام الماضي وصولاً إلى (الزيطة والزنبليطة) التي حار في صيغتها للغات الأمم المتحدة قسم الترجمة الفورية المعروف بقدراته الواسعة.

في السياسة لم يغادر الرئيس موقعه الذي تمترس فيه وهو موقع التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض مؤكداً رفضه لأيّ خيار آخر ولو لم يعجب ذلك كثيرين حسب قوله، وأنّ المقاومة بشكلها المسلح هي منطقة حمراء محظور الدخول اليها، انه طريق أوحد.

ذكر الرئيس بصياغة إيجابية حذرة رئيس حكومة الاحتلال يئير لبيد الذي ألقى خطاباً على المنبر ذاته ذكر فيه حلّ الدولتين، ولحلّ الدولتين قصة طويلة وردت في مقالات سابقة وسترد في لاحق المقالات، ولعلّ الرئيس ربط هذا التصريح بالانتخابات التشريعية (الإسرائيلية) التي ستجري في مطلع تشرين الثاني المقبل، والتي يخشاها محور التطبيع العربي إذ إنّ هناك فرصاً لفوز نتنياهو بها، لكن ظني أنّ أحداً لم يصدق لا لبيد ولا غيره من الذين يأتون على ذكر حلّ الدولتين الذي طوته الوقائع على الأرض، فمن يعرف الضفة الغربية يعرف أنه لم يتبقّ في الأرض التي التهمها الاستيطان متسعاً لإقامة دولة أو دويلة.

عدد الرئيس بالاسم أمثلة على ما يتعرّض له الفلسطيني من أذى وأدان صمت العالم وخاصة واشنطن خاصة في حادثة استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة والتي تحمل الجنسية الأميركية، كما تطرّق إلى إغلاق مؤسسات مجتمع مدني وإلى اعتقال الأطفال، ولكنه عندما وصل إلى قضية الأسرى وتحديداً ناصر أبو حميد الذي رأى أنه قد نال عقوبته على الجريمة التي ارتكبها، هنا يجدر المرور بناصر والقول إنّ منزل ذويه تمّ هدمه خمس مرات وإنّ له أخاً شهيداً فيما يقبع هو وجميع أخوته في السجن وكلّ منهم محكوم بما هو أكثر من مؤبد، هذا المناضل عضو في تنظيم فتح ـ الحزب الحاكم وملتزم ببرامجه وسياساته، وعندما قام بنشاطه المقاوم كان ينفذ تعليمات تأتيه من قيادته التي آلت بعد رحيل الرئيس السالف للرئيس الحالي، وبناء عليه فإنّ المسؤولية تقع على قيادة التنظيم أولاً. أثارت هذه التصريحات انتقادات ومنها ما جاء على لسان السيدة الفاضلة أم ناصر أبو حميد.

قد يرى البعض تبريراً لذلك بالقول إنّ الرئيس كان يخاطب العالم لا الشعب الفلسطيني ولكن هذا قد يستغلّ ويضع قرناً من نضال الشعب الفلسطيني وتضحياته في خانة الإرهاب والجريمة لا نضال شعب ضدّ احتلال من النوع العنصري الاقتلاعي. ومن المعروف أنّ العالم قد أصبح قرية كونية بالمنظور الإعلامي الإخباري فأيّ خبر أو تصريح قادر على ان يعبر العالم وبكلّ لغاته فور صدوره فلم يعد هناك فرق بين الخطاب المحلي والدولي.

في معرض حديثه عن الانتهاكات «الإسرائيلية» ورفض الحكومات المتعاقبة الحديث معه في السياسة وإنما في يوميات الحياة وبما يعني الجانب «الإسرائيلي»، كما يصرّح وزير الدفاع بني غانتس، في نهاية الخطاب توقع أن يكون هذا الخطاب هو الأخير له من على هذا المنبر وتساءل أين يُصرف هذا الكلام؟ والحقيقة أنّ الكلام عن التفاوض والحلول السياسية قد أصبح مثله كمثل عملة غير مدعومة بالذهب لا تشتري شيئاً، وعاد وأنهى خطابة: أريد حلاً، ومن الطبيعي أنّ الحلّ يبدأ في مغادرة مربع التفاوض الذي تحكّم بالعمل الفلسطيني الرسمي لأكثر من عقد ونصف العقد من دون أن يقدّم إلا مزيداً من التدهور.

———————–

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ حنين ـ فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى