ثقافة وفنون

الكاتبة والشاعرة العراقية سارة السهيل لـ “البناء”: الكتابة للطفل مهمة صعبة تحتاج لمَن يحتفظ بروح الطفولة البريئة والصادقة

علي بدر الدين

 

لا تحتاج الكاتبة والشاعرة العراقية والعربية سارة طالب السهيل، إلى التعريف بها وعنها، أو إلى مقدّمات وألقاب وكلام منمَّق، لأنّ القياس والحكم يكونان بحجم الإنتاج الأدبي والثقافي والشعري والمعرفي ونوعيته وتنوّعه وتمدّده على مساحة الأمة، وما يميّزها هو فائض الثقافة والأدب والشعر الذي من خلاله أثبتت حضورها في كلّ ميادين الثقافة وفي الندوات ومعارض الكتب على مساحة العالم العربي.

آخر إصداراتها 6 قصص للأطفال أخذت حيّزاً مهماً في معارض الكتب والمكتبات ووسائل الإعلام المتنوعة، وشكَّلت إنجازاً أدبياً مخصّصاً للأطفال، وجاءت في زمانها ومكانها الصحيحين، بعدما أصبحت الشعوب العربية وخاصة الأطفال أسرى تسَيُّد القحط والتصحّر والجفاف الثقافي، على ما عداها على مساحة هذا العالم العربي المترامي.

سألت “البناء” الكاتبة السهيل عن أهمية كتابة قصص الأطفال، ومدى تأثيرها على خيالهم وتفكيرهم؟ فقالت: لا بدّ لأيّ عمل فني أن يحقق هدفاً مهماً وهو التسلية والمتعة، ولكن وسط هذه المتعة الكثير من الأهداف الأخرى التى يسعى إليها أيّ مؤلف لتحقيقها وإيصال رسالتها الى المتلقٍّي، فإذا كان هذا المتلقِّي طفلاً صغيراً، فالأحرى أن تكون وسائل المتعة والتسلية أكبر حتى يكون العمل الأدبي أكثر جذباً وتشويقاً، غير انّ القصَّة الموجهة للأطفال تقوم بعدة أدوار مهمة، منها توسيع خيالهم، وتنفيس طاقاتهم وتفتيح عقولهم وتهذيب انفعالاتهم المبكرة، كالفرح والحزن والخوف والقلق، وتزويدهم بالمعلومات واكتشاف العالَم من حولهم، من بحار وجبال وأنهار وأسماك وطيور وحيوانات وشموس وأقمار وأزهار وألوان، ومحاورة هذه العوالِم بحسٍّ من الخيال “الفانتازي” التي يعشقها الطفل.

لا شك أنّ قراءة القصص للأطفال تعمل على تحفيز طاقتهم الخيالية وتنمِّي لديهم حسّ التخيُّل والابتكار، إلى جانب تنمية الجوانب اللغوية باكراً، وتثقيفهم بمعارف تتيح لهم القدرة على التعبير لغوياً وثقافياً عن أفكارهم وأحلامهم وذواتهم،

كما تحقق قراءة القصص للأطفال هدفاً أسمى وهو غرس القيم الأخلاقية ليبدأ الطفل في التعرّف عليها مبكراً، والتعايش معها لتكون جزءاً أصيلاً من شخصيته عندما يكبر ويشبُّ عن الطوق.

وتقول السهيل، إنّ القصص تنمِّي الشخصية، لأنّ الأدب والفن والثقافة هي البناء الحقيقي لدواخل الإنسان ولنمو العقل والفكر والذوق والتوجهات.

*مَا هو الأصعب كتابة قصص للأطفال أم كتابة قصص الكبار؟

ـ الطفل كـ مُتلقّ للأدب يحتاج للعفوية والمتعة واللعب والتسلية، بل انه يتعلَّم من خلال اللعب، وهو يحتاج الى مادة قصصية بعيدة تماماً عن التلقِّين والنصح التربوي المباشر، بل انه قد يتعلَّم ويتثقَّف من خلال احتياجاته لإشباع الخيال. وهذا الخيال هو الذي يجعله يطير بأجنحته ليكتشف العالم من حوله، وهو ما يحقِّق له المتعة الفنية والروحية معاً، وهنا فإنّ مهمة الكتابة للأطفال أكثر صعوبة، لأنها تحتاج من المؤلِّف امتلاكه للخيال الخصب واللامحدود وامتلاك العفوية والبساطة في المفردات اللغوية التي تناسب المرحلة العمرية الخاصة بالأطفال، والثقافة الواسعة بعلم النفس والتربية، والقدرة على التعبير عن العوالم الحقيقية من بيئة زراعية، أشجار وأنهار وطيور وصحراوية من جبال وصقور وصخور، وتحريك هذه العوالم الطبيعية في فضاء الخيال لكي تتكلم وتسمع وتتغنًّى بالأغاني وتصنع موسيقاها العذبة، وتتفاعل في ما بينها في مغامرات عجائبية تمتِّع الطفل وتجذبه إليها. وهنا يوظِّف الكاتب حبّ الطفل للجمال والخير والحب داخل النص الدرامي بأسلوب شيِّق وعفوي.

وتضيف أنّ كاتب الأطفال لا بدّ أن تكون جملته واضحة وقصيرة ورشيقة وموسيقية قدر الإمكان، ومليئة بالحركة ومفعَمَة بالخيال، وتكمن الصعوبة هنا في قدرة الكاتب على تضمين هذه الجمل بالحقائق والمعلومات والقيم الأخلاقية التي تسعى الى تثقيف الطفل بها برشاقة وعفوية تامة وممتعة، وهي مهمة غاية في الصعوبة لا يقدر عليها من الكتَّاب سوى الذي ما زال يحتفظ في داخله بروح الطفولة البريئة والعجيبة، فكاتب الطفل يجب بدرجة أولى ان يتمتَّع بالصدق والطفولة، لأنّ ما يصدر من القلب يصل الى القلب، والطفل كائن حساس جداً ويستشعر الدفء والحنان والعاطفة والطيبة بين السطور، وهناك بعض كتَّاب الاطفال يكتبون باحترافية دون روح، لهذا لا تصل كتاباتهم إلى قلب ووجدان الطفل أبداً، لأنّ من يملك روح الطفل بداخله ككاتب يجد نفسه قادراً على إشباع حب الاستطلاع لدى الطفل وإشباع نهمه لاكتشاف ومعرفة العالم من حوله عبر الخيال والمتعة الغرائبية التي يصنع بها المؤلِّف عوالم قصته من الحكايات الشعبية والحيوانات والأسطورة والملحمية ومغامراتها.

*ماذا عن تجربتك في مجال كتابة قصص الأطفال، وكيف بدأت وما هي دوافعك؟

ـ عشقي للطفولة كان عنصراً محفزاً للكتابة عنهم ومشاركتهم أفكارهم، ناهيك عن شعوري الدائم بأنني كلما كبرت ونضجت فكرياً عاودني الحنين للطفولة، (بداخلي طفلة لا تكبر أبداً).

حيث البراءة والأفكار “الطازجة” وكنوز الخيال والأحلام، وهذا الحنين الدائم والمتجدّد هو الذي يدفعني للكتابة للأطفال، والكتابة لهم هي واحة أستظلّ في ظلال أشجارها الوارفة فتجدّد الخلايا في داخلي وتحيي أفكاري وتنمِّي ملكاتي وتجدّد نشاطي الفكري بعيداً عن طلاسم الحياة المعقدة وسموم الأفكار الشاذة والسلوكيات اللاأخلاقية التي تنتشر في زماننا انتشار النار في الهشيم،

وهنا أجد ضالتي المنشودة في المدينة الأخلاقية الفاضلة في عالم الأطفال ومعايشتهم والتعبير عنهم.

بدأت الكتابة وأنا في المرحلة الابتدائية بقصة قصيرة تجسِّد معاني البطولة والشجاعة والإقدام، وكانت هذه الإرهاصات الأولى، هي نواة الكتابة للأطفال بقصة “سلمى والفئران الأربع” وكتب مقدمتها الفنان الراحل عبد المنعم مدبولى وترجمت للإنجليزية وتحوّلت إلى مسرحية للأطفال كانت من بطولة الراحلة دلال عبد العزيز ومن إخراج أسامة رؤوف،

وتوالت أعمالي القصصية للأطفال ومنها “نعمان والأرض الطيبة”، أعيدت طباعتها لاحقاً بطريقة “برايل” للمكفوفين و”ليلة الميلاد” وكتب مقدّمتها البابا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية. و”قمة الجبل”، و”قصة حب صينية أو سور الصين الحزين” باللغتين العربية والصينية، و”اللؤلؤ والأرض” مهداة للطفل الفلسطيني والقضية الفلسطينية وترجمت للفرنسية، وقصة “أميرة البحيرة” فى سلسلة المكتبة الخضراء دار المعارف المصرية، وقصة “ندى وطائر العقاقير” عن سلسلة أجمل حكايات، وقصة “كلنا أصدقاء”، وقصة “نايا” باللغة الكوردية وسلسلة قصص آدم، والمناهج التعليمية للأطفال للصفوف الثلاثة الأولى وبعض الكتب التعليمية والتثقيفية.

*أعتقد أنّ قراءة القصص للأطفال داخل العائلة العراقية لم تصبح تقليداً، هل تتفقين مع هذا الاعتقاد أم ماذا؟ وهل هناك إجراءات ممكن أن تتخذ للوصول الى هذا الهدف؟

ـ إنّ قرءاة القصص للأطفال هي تراث ينتقل من الجدات الى الأمهات عبر كلّ العصور، فالجدات كنَّ في الماضي مصدراً رئيسياً “للحكي” الشعبي والتراثي والأغاني والأهازيج بإيقاعاتها الموسيقية التي يتربَّى عليها الطفل في مرحلة هدهدته حتى يتشبّع بهذا “الحكي”، ومن ثم لا يستطيع أن يفارقه عندما يكبر، فهو يحتاجه في مراحل التعلُّم المختلفة،

لذلك فلا أظنّ أنّ الأمهات في العراق قد تخلينَّ عن تقليد حكاية القصص لأطفالهنَّ أو قراءتها لهم، وإنْ لم تفعل الأم الشابة ذلك، ربما لانشغالها بعملها أو ما شابه، فإنّ الجدة تقوم بهذا العمل، أو حتى “التلفاز” من خلال برامج الأطفال المختلفة، كذلك دور رياض الأطفال التي تقوم بدورها في تعليم الأطفال القصص والأساليب القصصية.

وإنْ كان قصدك أنّ بعض الأمهات أجبرتهنَّ ظروفهنَّ للخروج الى العمل لوقت طويل وانّ حياتهنٌّ الصعبة، أدَّت لاعتبارهنَّ الاهتمام بثقافة الطفل أمراً ثانوياً، فهذا الأمر صحيح للأسف، خاصة في المجتمع الذي يعاني من ضيق الحال، حتى أنّ بعض الأطفال فقدوا طفولتهم بسبب مشاكل الحياة وظروفها، كما أنّ الأيتام من بعد الحروب في العراق أعدادهم تفوق الخيال.

والأمهات اللواتي استشهد أزواجهنَّ في الحروب كان عليهنَّ أن يكوننَّ الأب والأم وأن يتحمّلنَ كافة المسؤوليات وهذا ما أضرّ بالأسرة كثيراً، كما أنّ الظروف المادية والاقتصادية لها دور كبير في هذا المجال، ما أدَّى إلى انقسام المجتمع إلى قسمين، قسم “مطحون” في مشاكل الحياة وصعوبة تدبير أولوياتها، فضاعت منهم الطفولة والسعادة والرفاهية، ما أدَّى أيضاً الى إهمال كلّ ما هو ثانوي بنظرهم. والقسم الآخر من المترَفين الذين حصلوا حديثاً على الأموال فاعتقدوا أنّ الانحلال الأخلاقي والتدهور الثقافي والتقليد الأعمى لكلّ ما هو تافه وسخيف نوع من التطور. فضاع المجتمع، وضاعت الطبقة الوسطى التي كانت الميزان الذي يحافظ على التوازن.

إلا أنني أعود وأؤكد أنّ أسرع وسيلة في توصيل الرسالة التعليمية أو الاخلاقية، وفي توسيع المدارك الفكرية للإنسان كبيراً أو طفلاً هو الأسلوب القصصي، ولذلك نجد خالقنا العظيم قد أستخدم هذا الأسلوب في تعليمنا معنى الحياة وهواجس الإنسان الداخلية وسيطرة الشيطان عليه ودفعه لارتكاب الجرائم، وتعليمنا معنى الابتلاء والصبر والصدق من خلال سورة يوسف وقصته مع إخوته وفي السجن وحزن أبيه يعقوب عليه، ثم يجبر الله صبره ويجعله أميناً على خزائن الأرض في مصر. كما أنّ التراث مليء بالقصص التعليمية الممتلئة حكمةً، وما زالت جدران المعابد القديمة في مصر والعراق وسورية شاهدة على التقدّم الحضاري الذي رويَ عن طريق القصص المكتوبة والمرسومة من ذاك الزمن القديم، كما أنّ كلّ الديانات دوّنت أفكارها وتعاليمها عبر قصص متداولة للكبار والصغار.

إلا أنني لا أنفي التراجع في القراءة بشكل كبير في بلادنا في الشرق الأوسط وخاصة في العراق، وذلك لأسباب كثيرة جداً. قد لا يتسع المجال لذكرها.

نستخلص من ذلك التحذير من إهمال القراءة القصصية للأطفال باعتبارها إحدى مصادر التثقيف وتربية الأذواق وتربية الأخلاق معاً. وأدعو الأُسَر العراقية والعربية لإحياء القرءاة القصصية للأطفال وعدم تركهم فريسة لغول الألعاب الاليكترونية. وتحفيز صغارنا على اقتناء الكتاب وتشجيعهم على القراءة عبر وسائل متعددة منها، اصطحابهم الى معارض الكتاب وشراء الكتب المناسبة منها، وتعويد الطفل على القراءة ولو لمدة زمنية قصيرة يومياً، لتكُن القراءة عنصراً رئيسياً في تغذية عقولهم وووجدانهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى