أولى

الحرب الروسيّة ـ الأوكرانيّة تقهقر أم تكتيك؟

} سعادة مصطفى أرشيد*

تبدو أخبار الحرب الروسية ـ الأوكرانية مربكة، فالحرب تطول، والروسي كان قد تقدّم في البداية سريعاً ثم أخذ بالتباطؤ ولاحقاً بشيء من التقهقر، فهل هذا تكتيك روسي أم عجز عسكري وهزيمة؟ التلفزيون الروسي الناطق بالعربية لا يبدي اكتراثاً، فهل هي أيضاً مسألة ضعف إعلامي أم سياسة مقصودة؟ بعض هذه الإجابة قد تتوفر لدى الخبراء بالعلوم العسكرية ولكن يمكن القول إنّ الحرب، أيّ حرب هي كرّ وفرّ، تقدّم وتراجع وهي مجموعة من المعارك ونتيجة الحرب النهائية تكون لمن يستطيع أن يحقق أهدافه السياسية باعتبارها بالأصل قراراً سياسياً وفق ما ذهب اليه أبو الاستراتيجية الجنرال كلاوزفيتز، يستثني من القواعد الواردة أعلاه حروبنا منذ عام 1948 والتي كانت فراً من غير كرّ وهزيمة وإنْ رفعنا الإصبعين بإشارة النصر فيما العدو هو مَن يفرض سياساته، اللهم إلا حرب المقاومة اللبنانية.

هذا التقهقر الذي جعل الأخبار مرتبكة، لا يبدو أنه أربك موسكو التي تنظر إلى نهاية الشوط ويتبدّى أنّ لها مصلحة حيوية في إطالة أمد الحرب التي كلما طالت ازدادت أرباح موسكو في السياسة والاقتصاد والعسكر الذي يخوض حرباً حقيقية تعمّق من قدراته ويجرّب بها أسلحة جديدة على أهداف حقيقية لا وهمية.

المقاطعات الأربع التي تريدها روسيا ليست ذات أهمية استراتيجية لروسيا فقط وإنما برأي الخبراء العسكريين أنّ التمركز الروسي فيها يجعل من أوروبا تحت الرماية الروسية، هكذا على العالم أن يقف منتظراً على مفترق طرق فيما تجري عملية فرز سياسي دولي على غير استعجال وفي أثناء ذلك تحصد روسيا مكاسبها.

تستفيد روسيا من ارتفاع أسعار النفط والغاز وما يتبع ذلك من تدفقات نقدية على خزانتها وبالعملات العالمية. القرار الروسي بفرض بيع النفط والغاز بالروبل جعل المشترين يضطرون لشراء الروبل من البنك المركزي الروسي وبالسعر الذي يحدّده البنك لا بسعر سوق العملات، بهذا تكون روسيا بما يتوفر لديها من فوائض قادرة على تمويل حربها مهما طالت كما ستكون قادرة على تطوير اقتصادها وصناعتها المدنية والحربية وزراعتها وقوتها العسكرية.

أوروبا التي انصاعت لأوامر الإدارة الأميركية تدخل في شتائها البارد وخاصة ألمانيا التي كانت تدعو وتصلّي (لا تدخلنا في التجربة ولكن نجِّنا من الشرير) أصبحت الآن في عمق التجربة الصعبة، فشعبها المدلل والمترف يختلف مزاجه وسلوكه عندما تصل الأمور إلى حياته ورفاهيته، إلى تدفئته وإنارته ومواصلاته، يفقد الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والجندر وغيرها ولا تعود تعنيه عدالة الحجج الأوكرانية وإنْ كانت صحيحة أم لا، وإنْ كان فلاديمير بوتين هو سبب مشاكله أم غيره، لن يرى مسؤولاً غير مَن انتخبهم والذين عليهم بموجب عقدة الاجتماعي ان يؤمّنوا له احتياجاته، لا يهمّ من أين وكيف

في مؤتمر براغ الأوروبي قالت ألمانيا إنها بصدد رصد 200 مليار يورو إعانات للمتضرّرين من ارتفاع أسعار الطاقة، وزير المالية والذي يشغل منصب نائب المستشار أيضاً إذ صرّح بأنّ الولايات المتحدة تعرض على أوروبا الغاز بسعر يفوق سعر السوق بـ 30%، أما الرئيس الفرنسي ماكرون فقد أكد أنّ أزمة الطاقة أعمق من أية أزمة أخرى وأنٍ الشتاء ما بعد المقبل سيكون أشدّ برداً من الشتاء المقبل ما لم يجدوا حلاً للأزمة، وفي لقاء له مع رجال أعمال في الثامن من هذا الشهر قال الرئيس الفرنسي إنّ على أوروبا التفكير بالانضمام للاقتصاديات الآسيوية، وأضاف أن ليس من الصداقة أن تبيعنا الولايات المتحدة والنرويج الغاز بأربعة أضعاف السعر الذي تبيعه البلدان للصناعة في بلادهم.

استطاعت روسيا اقتحام معاقل أميركيّة بأساليب مختلفة، وهذا لا يعني خروج تلك المعاقل تماماً من العباءة الأميركية وإنما مارست سياسة القضم من النفوذ الأميركي، تركيا العضو في الناتو التي أصبحت تاجر القمح الكبير، السعودية والإمارات مع الحذر من الإفراط في التفاؤل، الأمر الذي بدا واضحاً في اجتماع «أوبكإذ وافقت الدولتان على تخفيض الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل يومياً بالضدّ من رغبة واشنطن وذلك في الوقت الذي يزداد فيه الطلب على النفط والغاز، غضبت واشنطن وتقول إنها تدرس خيارات الردّ على الرياض وأبو ظبي، فهل ستترجم غضبها بإعادة فتح ملف الصحافي جمال خاشقجي مثلاً؟

لم تعد هذه الأمور قادرة على ثني محمد بن سلمان، فيما يخوض بايدن معركة الانتخابات النصفية وهو على هذا الحال من التأثير الضعيف على أقرب الحلفاء، هذه الإدارة الديمقراطية فشلت في أن تقدّم حلولاً لمشاكل الداخل الأميركي ولم تستطع أن تحقق نجاحاً في سياساتها الدولية، وكأن نظرية النظام أحادي القطبية قد تلاشت لصالح عالم بلا أقطاب وقيد التشكيل، لا يبدو أنّ بايدن وأركانه يعرفون أنّ قواعد التعامل مع دولة تملك السلاح النووي هو غير التعامل مع الدول التي لا تملكه.

لكن العنصر الأهمّ في رغبة روسيا في إطالة أمد الحرب، هو هدفها الاستراتيجي الأكبر والذي يتمثل في عودتها للساحة الدولية باعتبارها قطباً أعظم ومركزياً في أيّ صراع عالمي، وبما أنّ الحروب تنتهي بالجلوس إلى مائدة التفاوض التي يفرض بها الأقوى شروطه، فإنّ روسيا ترى أنّ التفاوض في هذه المرحلة قد يعطيها بعض متطلبات أمنها القومي مثل السيطرة على المقاطعات الأربع ومنع أوكرانيا من الانضمام للناتو، ولكن الهدف الروسي النهائي يتجاوز ذلك، تحتاج الحرب لأن تطول لتفرض سيطرتها على بلدان البلطيق أيضاً والبلقان، تحتاج لإرهاق واشنطن أكثر وما يجري في السعودية من قضم للدور الأميركي، وما ستدفعه أوروبا من قلق وربما تخلخل في عقد شعوبها الاجتماعي مع حكامها، تنتظر اشتداد عزم الصين والهند وإيران وباقي دول بريكس واتفاقية شنغهاي، هذا ما تنتظره موسكو لبدء التفاوض وحسم الحرب.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى