نقاط على الحروف

كيف يمكن تقييم عهد الرئيس ميشال عون؟

 

ناصر قنديل
– بسبب التجاذب السياسي الداخلي، ينصرف الذين يقيّمون العهد الرئاسي للعماد ميشال عون الى رؤية العهد بمنظار الشعارات التي رفعها والعهود التي قطعها، وينقسمون بين من يستنتج أنه عنوان لوقوع الكارثة، ومن يعتبرون انه أطلق مسار الإصلاح رغم التعقيدات والعقبات. فيرى الفريق الأول أنه يمكن أن تنسب للعهد كل علامات انهيار النظام المالي والمصرفي الذي جاء تتويجاً لثنائية العقوبات والحصار من جهة، والسياسات المالية الخاطئة القائمة على تثبيت مصطنع لسعر الصرف والاعتماد على الاستدانة بلا سقف للحجم وسعر الفائدة من جهة ثانية، والسياسات الاقتصادية القائمة على الريع بعيدا عن الإنتاج من جهة ثالثة، والفساد الذي نهش الإدارة والسياسة والمحاصصة الطائفية التي حكمت التوظيف والتلزيمات من جهة رابعة، وفي ذلك افتراء على العهد ومبالغة في تحديد حجم المسؤولية، في ظل صلاحيات محدودة لرئيس الجمهورية بعد اتفاق الطائف؛ بينما يسعى الفريق الثاني الى حشد كل ما تحقق من إيجابيات تتصل بالحرب على الإرهاب وترسيم ثروات النفط والغاز وقانون الانتخابات والتدقيق الجنائي المالي، وضعف تماسك مكونات النظام السياسي الطائفي المالي، وتقديمها بصفتها إنجازات تسجل للعهد. وفي ذلك مبالغة تتجاهل صلة بعض هذه الايجابيات بوقوع الانهيار، كحال التدقيق الجنائي وتفكك المكونات المؤثرة في صناعة تماسك النظام السياسي والمالي، وتجاهل لأدوار أخرى كانت حاضرة في تحقيق إنجازات مثل الحرب على الإرهاب والترسيم وقانون الانتخاب، تجعل العهد شريكاً أساسياً فيها، ولا تجعله صانعاً وحيداً لها.
– التقييم المنصف يجب أن ينطلق من ثلاثة ثوابت، الأول هو أن الوضع السياسي في لبنان يرتبط عضوياً بالمناخات الإقليمية والدولية، ولبنان ليس جزيرة معزولة، بل هو في قلب معادلات متحركة تتصل بالصراعات التي تشهدها المنطقة، في عالم يتغير بسرعة، ورئاسة العماد عون جاءت في قلب ثلاثة محاور صراع كبرى لا يمكن النظر الى تقييمها بعيداً عن مسار الصراع في هذه المحاور، وهي الصراع الأميركي الإيراني حول الملف النووي، والصراع الأميركي مع روسيا وإيران حول مستقبل سورية، والصراع بين قوى المقاومة ومن خلفها إيران وسورية ومقابلها كيان الاحتلال ومن خلفه دعم أميركي لا محدود. والثابت الثاني هو أن رئيس الجمهورية بعد اتفاق الطائف لم يعد يملك صلاحيات تمكنه من التحكم بأداء مؤسسات الدولة، وصار سقف ما يملكه هو استخدام نسبي لحق الفيتو، بحدود ما تسمح به موازين القوى المحيطة خارجياً وداخلياً. والثابت الثالث هو التناقض القائم بين التوجهات الإصلاحية والتركيبة الطائفية من جهة، وحاجة الرئيس لموازين قوى تحمي موقعه لن تتوافر من خارج التركيبة الطائفية، وبالتوازي إلى خطاب لاطائفي يمنح المصداقية والجدية لمنهجه الإصلاحي.
– المفارقة التي لا يمكن تجاهلها تتمثل بأن العماد ميشال عون وصل الى الرئاسة على خلفية تسليم أميركي بالفشل في الحرب على سورية، وبالحاجة للانخراط مع إيران بتفاهم على ملفها النووي، من جهة، وصعود دور المقاومة في لبنان في ترسيخ قواعد الاشتباك بوجه جيش الاحتلال وفي الحرب على سورية معاً، وقبل أن يتسلم الرئيس عون صلاحياته كانت الظروف قد انقلبت فوصل الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وفي جعبته قرار بالخروج من الاتفاق النووي من ايران، لم يلبث أن تمّ تظهيره عام 2018، في جعبته خطة تصعيد لدور الإرهاب في سورية ولبنان، وقد جاءت حرب الجرود ترجمة لهذه الخطة، وتزامن نصف ولاية الرئيس عون مع قرار أميركي بتفجير الاستقرار اللبناني النسبي عبر الضغوط القصوى، رهاناً على ثورة تحاصر حزب الله وتسحق التيار الوطني الحر وتأتي بمجلس نيابي يوالي السياسات الأميركية. ودخل الضغط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية على الخط، والسعي لتوظيف كل أوراق التأثير لإضعاف موقف لبنان التفاوضي ليكون عهد الرئيس عون هو عهد المعارك الكبرى، بدلاً من وعود الإصلاح، وفي كل هذه المعارك الكبرى خرج لبنان منتصراً وكان العهد عاملاً حاسماً في صناعة هذا النصر. فهزم الإرهاب وفشلت الثورة في حصار المقاومة وسحق التيار، وفاز لبنان بمعركة الترسيم.
– في البعد الداخلي خاض العهد معركتين يستحيل الفوز بهما معاً، معركة تعزيز المكانة المسيحيّة ودوره فيها، ومعركة الوعود الكبرى ببناء الدولة. فربح الأولى وخسر الثانية، والخسارة في الثانية كانت محسومة منذ البداية، ليس لأنها فرضت في ظروف غاية في التعقيد دولياً وإقليمياً فقط، وليس لأنها تتناقض جوهرياً مع المعركة الأولى وحسب، بل لأن معركة بناء الدولة لا تربح في لبنان إلا بالتوافق، أي بزوال الفيتو الطائفي عنها، وجوهرها هو الخروج عن التوافق، ورئيس الجمهورية لا يستطيع أن يحكم خارج نظام التوافق، بينما نجح العهد بتعديل التوازنات التي حكمت مرحلة ما بعد الطائف لجهة الدور المسيحيّ، سواء في قوانين الانتخابات وتشكيل الحكومات أو مكانة رئاسة الجمهورية، ونجح في قلبها بحماية دور محوري للتيار الوطني الحر جسّدته الانتخابات النيابية الأخيرة.
– قدّم العهد نموذجاً ناجحاً لحلف استثنائي بين الدولة والمقاومة، وبين تياره السياسي وحزب المقاومة، وفيما كانت التحالفات الأخرى تتفكك وتعجز عن الثبات، خصوصاً تحالف تيار المستقبل والقوات اللبنانية، باعتباره الحلف المنافس، لكنه عجز عن تحويل رئاسته الى مدخل لبناء جبهة تتجاوز الخصومات الصغيرة التي حكمت علاقاته بحلفاء حليفه، خصوصاً حركة أمل وتيار المردة، والتي لو تم النجاح بتخطيها، كان بمستطاع هذا الحلف العريض أن يستثمر الانتصارات الكبرى في صناعة رئيس جديد للجمهورية يكمل ما تم بناؤه، فالعهد الذي استطاع أن يحتوي التحالف مع الرئيس سعد الحريري، لم يستطع احتواء الصراع الموروث من المعركة الرئاسية مع كل من الرئيس نبيه بري والوزير السابق سليمان فرنجية.
– لقد كنس عهد العماد ميشال عون كل ما تمّ تأسيسه للانقضاض على لبنان في عهد الرئيس ميشال سليمان، سواء في تجميع فلول الإرهاب في الجرود وتقديم وجودهم تمثيلاً لـ «ثورة « سورية، من جهة والعبث بكل مرتكزات القوة الوطنية في ملف الحدود البحرية، وتشكيل سند لحلف داخلي يطعن بصدقية المقاومة، ويقدم قاعدة خلفية للحرب على سورية، وفي الداخل ردّ الاعتبار للنظام البرلماني، سواء بجعله أقرب للتمثيل الشعبي القائم أصلا على أساس طائفي، وجعل رئاسة الجمهورية والحكومة تعبيرات أكثر احتكاماً للأوزان البرلمانية. وهذه هي القواعد الأشدّ رسوخاً للابتعاد عن الحرب الأهلية كطريق للتفاعل اللبناني التقليدي مع الأزمات الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى