أولى

ما كشفته الحرب حول القدرة على الاستغناء عن الشرق

يتناوب صحافيون ومعلقون من جماعة ثقافة الهمبرغر التعليقات على صورة نشرت لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف وهو يضع في يده ساعة آبل وأمامه هاتف من نوع أيفون. ونشرت قنوات تلفزيونية مأخوذة بالنغمة الغربية تقارير تتضمن كلاماً للافروف يتحدث فيه عن الهيمنة الغربية، لتسأله وهل تواجه الهيمنة الغربية بالاعتماد على التقنيات الغربية، داعية للتسليم التفوّق الغربي، لأن لا غنى لأحد عن الغرب.

معادلة لا غنى لأحد عن الغرب صحيحة، لكن هل يمكن الاستغناء عن الشرق؟ هذا هو السؤال الحقيقي، الذي طالما كان الجواب يأتي على طرحه بكلمة نعم، لأن الخداع البصري الذي كان يمارس على الرأي العام كان يقوم على وضع أرقام وجداول تقول بالتفوق الاقتصادي الغربي، وتستخلص هشاشة وهامشية دور الشرق، وحاجة الغرب إليه، وتشترط على دعاة المواجهة مع الغرب إثبات القدرة على الاستغناء عنه، دون أن تفعل المثل مع دعاة المواجهة مع الشرق.

جاءت حرب أوكرانيا، تقول إن أهم ما لدى الغرب وكان الغرب يظن أن أحداً لا يستطيع الاستغناء عنه، وجاءت الحرب تكذبه، هو النظام المصرفي الذي استعمل بكامل طاقته لإسقاط روسيا وفشل فشلاً ذريعاً، حيث سجل الروبل تحسناً رغم سطو الغرب على الأموال الروسية المقدرة بنصف تريليون دولار، وشطب المصارف الروسية عن نظام السويفت، ومعاقبة كل الشركات العالمية التي تتعامل مع روسيا. وكان كافياً أن تقرر روسيا بيع الغاز بالروبل لتبطل مفعول كل تلك الإجراءات، وتظهر أن بالإمكان أن ينهض الاقتصاد في بلد من بلدان العالم وهو قادر على الاستغناء عن المصارف الغربية، دون أن يتأثر سعر عملته الوطنية.

جاءت حرب أوكرانيا، تقول إن أزمة غذاء عالمية اندلعت، وإن أزمة طاقة تتصاعد، وإن الغرب ليس محصناً بوجه هاتين الأزمتين، وإن الاستغناء عن روسيا وحدها غير ممكن، رغم كل الكلام السابق عن حجم الاقتصاد الروسي الصغير قياساً بحجم الاقتصاد الأوروبي أو الأميركي، طالما أن الغرب يسلم بألسنة قادته اليوم بأنه لا يستطيع الاستغناء عن الاقتصاد الصيني، وبالمناسبة أغلب منتجات التقنيات الأميركية والأوروبية ومنها شركة آبل تتم صناعتها في الصين، ليس لرخص اليد العاملة، التي تعادل أجورها الأجور الموازية في الغرب في هذه القطاعات، بل لدرجة المهارة العالية.

جاءت الحرب لتقول إن أوروبا وأميركا عندما أرادت تخفيف الاعتماد على الغاز والنفط في انتاج الطاقة والعودة الى توسيع نطاق الإنتاج عبر الطاقة النووية، وجدت أن روسيا هي المصدر العالمي الأول لليورانيوم المخصب المعالج ليصير صالحاً لإنتاج الطاقة، حيث يقول تقرير شركة أويل برايس الأميركية إن «هناك عقبة رئيسية واحدة أمام بناء المفاعلات الأكثر تقدماً قيد التطوير في الولايات المتحدة، وهو نوع وقود اليورانيوم الذي تم تصميم هذه المفاعلات لتشغيله، حيث يُباع هذا الوقود حالياً بشكل تجاري من قبل شركة واحدة فقط في العالم، وهذه الشركة تابعة لشركة روساتوم الروسية الحكومية للطاقة الذرية».

جاءت الحرب لتقول إن الرئيس الأميركي عندما قرر إطلاق حملة التنافس مع الصين، اعترف بأن الحرب على زعامة العالم تبدأ من التفوق في صناعة أنصاف الموصلات التي تشكل عصب صناعة التقنيات الحديثة والذكاء الصناعي، مضيفاًللأسف فإننا لا نصنع منها شيئاً مطلقاً، وعندما رصد خمسين مليار دولار للانطلاق بهذه الصناعة اكتشف ان المواد الرئيسية لهذه الصناعة مصدرها روسيا، التي بدأت في تقييد صادرات الغازات الخاملة أو «النبيلة»، بما في ذلك النيون والأرغون والهيليوم، إلى دول «غير صديقة» في نهاية مايو (أيار) الماضي، وفقاً لتقرير صادر عن وكالة الأنباء الروسية الحكومية «تاس»، وتستخدم الغازات الثلاثة لإنتاج الرقائق الإلكترونية الصغيرة الموجودة في مجموعة كبيرة من الصناعات العالية الدقة كالأسلحة والروبوتات والكثير من المنتجات الاستهلاكية، من الهواتف الذكية إلى الغسالات والسيارات، والتي كانت تعاني نقصاً شديداً في المعروض منذ أشهر.

الإقرار بأن العالم بات قرية كونية يستدعي الإقلاع عن نظرية الاستغناء ووهم الاستعلاء، وشرطها التوقف عن استعمال سلاسة تدفق التكنولوجيا والمال والطاقة والغذاء كأسلحة؛ والبادئ باستخدامها كسلاح يدفع تبعات ما فعل. فالبادئ أظلم.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى