مقالات وآراء

كلب الحراسة والفتى المشاكس!

د. علي أكرم زعيتر*

ماذا بعد وصول نتنياهو إلى سدة الحكم في “إسرائيل”؟ هل من حرب بين لبنان والكيان الصهيوني؟
لسنا في وارد الرجم بالغيب، فالإجابة على سؤال من هذا النوع، بحاجة إلى منجم أوعرّافة، وما أكثر المنجمين والعرافات في أيامنا هذه. سنحاول الإجابة على هذا السؤال عبر ما يسمّى بخاصية الاستشراف والتخمين ليس إلا.
يرتسم في أذهان الكثير من اللبنانيين مشاهد وسيناريوات حول حرب مفترضة بين لبنان، وجار السوء. البعض جزم بحتمية وقوعها. فالمتربع القديم الجديد على عرش مملكة يهوذا والسامرة التوراتية، سبق أن هدّد بأنه لن يتوانى عن تشذيب أطراف كلّ من يتجرأ على المساس بأمن كيانه المصطنع، ولا بدّ من أن تؤخذ تهديداته على محمل الجدّ، ما يعني في المحصلة أنّ فرص إشعال حرب مع لبنان مرتفعة جداً. ولكن هل هذا كلّ شيء؟ أعني، هل يكفي وصول رجل متطرف إلى سدة الحكومة في تل أبيب لإشعال الحرب؟
بكلمة واحدة نجيب، لا. لا يكفي ذلك، فالحرب أيما حرب صحيح أنها لا تحتاج إلى إرادة الطرفين المتصارعين، إذ يكفي أن يقرّر أحد الطرفين البدء بها حتى تشتعل، إلا أنّ نشوبها من عدمه يبقى رهناً للظروف والأسباب والمعطيات.
والمعطيات الحالية كلها تشير إلى أنّ نتنياهولن يقدم على أيّ حرب ضدّ لبنان، حتى ولو قُدِّمت له كلّ التسهيلات، وحتى لو دفع به ألف طرف إليها. فما أهمّ تلك المعطيات التي اعتمدنا عليها للخروج بقناعتنا هذه؟
من أهمّ تلك المعطيات، نذكر:
أولاً: التفوق النوعي والكمّي لحزب الله، وقدرته الفائقة على إلحاق الأذى بالجبهة الداخلية “الإسرائيلية”.
لقد عبّر حزب الله صراحة عن مقدرته هذه من خلال الفيديو القصير الذي انتشر مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي، والذي أظهر مقاتلين من الحزب يُحدثون ثغرة في الجدار العازل على الحدود الجنوبية، ويعبرون من خلالها إلى الداخل الفلسطيني ليذيقوا جنود الاحتلال وبال أمرهم.
هذا الفيديو الذي يحاكي ما قد يحدث مستقبلاً في حال قرر نتنياهو المغامرة، على بساطته وقِصَر مدته، فإنه يحمل في طياته مضامين ورسائلَ جدَّ خطيرة، ليس أوّلها الردع، وإرغام حكام تل أبيب الجدد على التفكير مرتين قبل القيام بأيّ خطوة ناقصة، وليس آخرها إحراج نتنياهو وإظهاره بمظهر الشعبوي الذي يطلق تهديدات جوفاء لا يعرف تبعاتها، فيما لو وقع ما ليس في الحسبان.
بات واضحاً لجميع المراقبين أنّ الحزب لا يريد الحرب، ولكنه لا يخشاها، كما سبق وعبّر عن ذلك مراراً أمينه العام.

ثانياً: أمام نتنياهو خمس تحديات أو فلنقل خمس ملفات تطبخ على نار حامية. أولها التحدي الذي يشكله حزب الله على جبهته الشمالية. وثانيها ملف المفاوضات النووية الإيرانية، وثالثها الحرب الروسية الأوكرانية وإعادة تموضع الكيان إزاءها، ورابعها حماس والجهاد الإسلامي وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية، وخامسها مدى قدرة الحكومة الجديدة على جرّ المزيد من المشيخات الخليجية إلى فخ التطبيع.
لكي ندرك مدى جدية نتنياهو، علينا أن نعيد الربط بين هذه التحديات أو الملفات بطريقة دراماتيكية، فنقول:
أ ـ لكي يخوض نتنياهو حرباً على لبنان عليه أن يحظى بموافقة أميركية ــ أوروبية، وهذا ما لا يزال حتى الساعة بعيد المنال، بسبب الحرب الأوكرانية الروسية وخشية أوروبا وأميركا من انقطاع إمدادات الغاز والنفط العربي في حال وقوع أيّ حرب في المشرق العربي، لا سيما أنّ حركة أنصار الله اليمنية قد سبق لها وهدّدت بقطع مضيق باب المندب الذي تمرّ عبره ناقلات النفط من المشرق العربي إلى العالم.
فأوروبا التي باتت وجهاً لوجه أمام الشتاء البارد الذي وعدها به الروس، ترتجف خوفاً من مجرد التفكير بانقطاع إمدادات الغاز العربي. هذا الاحتمال يشكل لها كابوساً في الوقت الحالي، فهل من المعقول أن تأذن لكلب حراستها الإسرائيلي بشنّ حرب غير محسوبة النتائج، وهي تخشى ما تخشى؟ بالطبع لا!
أضف إلى ذلك أنّ سيد الأبيض الحالي الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، وهو الحزب الذي لطالما اشتُهر بولعه بالحروب غير المباشرة، أو الحروب بالوكالة، قد فقد على ما يبدو شهيته لحروب من هذا النوع بسبب الحرب الأوكرانية الروسية.

هناك ما يشغل باله حاليّاً، ومن المستبعد أن يسيل لعابه على القصعة اللبنانية التي لا تعدّ من ضمن أولوياته في الوقت الراهن.
قبل حسم الملف الروسي الأوكراني، لا يمكن لبايدن أن يفكر في فتح جبهة جديدة. صحيح أنّ رحى الحرب تدور على الأرض الأوكرانية لا على أرضه، ما يعني بأنه لا يألم كما يألم زيلينسكي، ولكن احتمال خسارة تلك الحرب أمر كارثي بالنسبة له، لما لذلك من ارتدادات خطيرة على مستقبل الأحادية القطبية، وصورة أميركا أمام العالم.
فإذاً، الغرب يخشى المواجهة بين “إسرائيل” وحزب الله، للأسباب التي ذكرناها، فأنَّى لنتنياهو أن يخوض حرباً لا تريدها الولايات المتحدة وأوروبا؟
علينا أن نعي أنّ لـ “إسرائيل” دور وظيفي في المنطقة، وأنها ليست سيدة نفسها كما يتوهّم بعض العرب، ومتى ما أخلَّت بهذا الدور الوظيفي فلا أحد سيمنع مشغلّيها الغربيين من تأديبها. علينا أن نضع ذلك دائماً في حسباننا.
ب ـ لقد سبق لنتنياهو أن أعرب عن استيائه من إبرام حكومة سلفه يائير لابيد اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، وعن نيته الانسحاب الأحادي من هذا الاتفاق. ولو كان جادّاً في شن حرب على لبنان، فإنّ أول ما سيقوم به هو تنفيذ تهديده بالانسحاب من الاتفاق.
لقد مضى قرابة الشهر على تسنُّمه رئاسة الحكومة ومع ذلك لم ينبس ببنت شفة حول هذا الموضوع. لو كان ينوي الحرب فعلاً لأعاد التذكير بوعيده وتهديده. من الواضح أنّ آخر ما يفكر به هو إشعال حرب في الوقت الراهن.
ج ـ ليست المرة الأولى التي يتسنَّم فيها نتنياهو رئاسة الحكومة في ”إسرائيل“. لقد كانت الظروف خلال فترة ولايته السابقة مؤاتية أكثر، فلماذا لم يخض وقتها الحرب؟ ألا يعدّ ذلك دليلاً قويّاً على عدم جدّيته؟ ثم ماذا عن تجربة حرب تموز والحرب السورية ومشاركة قوات حزب الله هناك إلى جانب الجيش العربي السوري؟ أليستا تجربتين رادعتين حتى يتعظ منهما الرجل؟
د ـ من يضمن عدم تدخل إيران وقوى المقاومة في حال وقعت الحرب؟ هل بوسع بطاريات باتريوت الأميركية أن تصدّ صليات الصواريخ التي ستتقاطر على ”إسرائيل“ من كلّ حدب وصوب؟ من إيران، وسورية، ولبنان، وغزة، وما يدرينا فلعلّ أنصار الله اليمنية والحشد الشعبي العراقي يطلقان ما في جعبتهما من صواريخ باليستية طويلة المدى؟ الحرب مع لبنان ليست نزهة، ونتنياهو يعي ذلك جيداً.
إنّ نتنياهو الذي لم يجرؤ على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية خلال ولايته السابقة، خشية ردّ فعل إيران، لن يجرؤ اليوم على مهاجمة حزب الله خشية دخول إيران على الخط. فإيران التي لا تزال تتوعّد بالثأر من قتلة الشهيد قاسم سليماني، تبحث على ما يبدو عن قاتل صغير ووضيع كيما تصبّ عليه جامّ غضبها، ومن بين كلّ المشاركين في جريمة قتل الشهيدين سليماني وأبي مهدي المهندس ما نخال أنّ هناك أوضع وأصغر من الكيان الصهيوني حتى تنزل إيران عقابها فيه، وتظهر فائض قوتها عليه.
أضف إلى ذلك، أنّ إيران التي تمرّ مفاوضاتها النووية حاليّاً بفترة ركود، والتي عانت ما عانت بفعل الدعم الاستخباري الغربي لمثيري الشغب على أراضيها، تبحث عن بعض الإثارة في المنطقة، عسى أن تحرك المياه الراكدة في فيينا، وهي تبدو حاليّاً كالفتى المشاكس الذي يبحث عن المشاكل.
هـ ـ “إسرائيل” القلقة دائماً، عبّر أحد جنرالاتها السابقين بالأمس عن قلقه العميق والجدي من ردّ فعل فصائل المقاومة الفلسطينية على زيارة الوزير المتطرف في حكومة نتنياهو (بن غفير) إلى المسجد الأقصى، علماً أنّ الزيارة التي طبّل لها بن غفير وزمّر، جرت بعيداً عن الإعلام وأحيطت بسرية تامة، وقد رافقها الكثير من الإجراءات الأمنية. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ههنا: أنَّى لمَن لم يجرؤ على المجاهرة بزيارة مستفزة من هذا النوع خشية ردّ فعل الفصائل الفلسطينية أن يشنّ حرباً على تلك الفصائل؟! المنطق يقول، لو كانت لـ “إسرائيل” نية مبيّتة حيال الفلسطينيين، لما فوّتت أيّ فرصة للاحتكاك بهم، ولكانت سمحت لبن غفير بزيارة المسجد الأقصى علناً، تماماً كما سبق لحكومة إيهودا باراك أن سمحت لليميني المتطرف أرئيل شارون باقتحام المسجد وتدنيسه في 27 أيلول 2000.
تدرك “إسرائيل” جيداً أنّ المسجد الأقصى خط أحمر بالنسبة للعرب والمسلمين والفلسطينيين على وجه التحديد، وقد سبق لها أن عانت ما عانت من انتفاضة الأقصى الثانية التي انطلقت على إثر تدنيس شارون للأقصى.
آنذاك، حصل شارون على إذن مباشر من رئيس الوزراء الصهيوني إيهودا باراك، ولوكان نتنياهو يفكر بجدية في إشعال المواجهة مع الفلسطينيين لأعطى إذنه المباشر لبن غفير. الأمر إذاً جعجعة فارغة، فتنياهو الذي يعدّ من أكثر الجهات الصهيونية تطرفاً في الوقت الحالي، يعلم أنّ فتح أيّ معركة مع دول محور المقاومة منفردة، كلّ على حدة، أو مجتمعة سيكون مكلفاً للغاية.
وبموازاة كلّ ذلك، فإنّ احتمال اندلاع حرب بين لبنان و”إسرائيل“ من شأنه أن يزيد من رصيد حزب الله في الشارع العربي، ويحرج المشيخات الخليجية التي هرولت للتطبيع مع الكيان، وهو ما تتحاشاه تلك المشيخات بأيّ ثمن.
فبالرغم من كلّ حملات التشويه التي تعرّض لها حزب الله على مدى الأعوام الماضية، والتي قادتها وسائل إعلام عربية محسوبة على تلك المشيخات، لا يزال الحزب يتمتع برصيد مقبول في الشارع العربي، ومن شأن أيّ حرب مقبلة بينه وبين الكيان الصهيوني أن تعيد الزخم إلى ذلك الرصيد، فهل يُعقل أن تقدّم ”إسرائيل“ الباحثة عن حلفاء عرب هديةً من هذا النوع لعدوها اللدود؟
ثالثاً ـ تعتقد الأوساط الرسمية الصهيونية، أنّ حرب الدولار التي تخوضها الولايات المتحدة ضدّ لبنان، منذ ثلاث سنوات، تحديداً منذ عهد الرئيس ترامب، كفيلة لوحدها بتحقيق ما عجزت عنه “إسرائيل” خلال حروبها السابقة ضدّ حزب الله.
وفقاً لتلك الأوساط، فإنّ الشعب اللبناني اليوم، بعد ثلاث سنوات من الحصار المالي، بات مقتنعاً أكثر من أيّ وقت مضى بأنّ كلّ يعانيه ويقاسيه مردُّه إلى التمسك بسلاح المقاومة، الأمر الذي قد يفتح الباب مستقبلاً أمام قاعدة حزب الله الشعبية للتفكير مليّاً في التخلص من السلاح بعدما بدأ يشكل عبئاً ثقيلاً على حامليه.
يظنّ ساسة تل أبيب أنّ انقلاب الحاضنة الشعبية على سلاح المقاومة مسألة وقت، ليس إلا، وعليه فلماذا تتكبّد “إسرائيل” عناء خوض حرب عسكرية ما دامت الحرب المالية تؤتي أكلها؟
هذه الفكرة الشائعة في تل أبيب ستجعل من احتمال وقوع الحرب أمراً ضئيلاً للغاية.
حرب لا يريدها الأميركي، ولا يرضى بها الأوروبي، ولا “الإسرائيلي” قادر على خوضها في ظلّ توازن الردع الذي فرضه حزب الله وترسانته الصاروخية، ولا الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية مناسبة… حرب مثل هذه أنَّى لها أن تنشب؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
*مؤرّخ وباحث لغوي وسياسي

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى