مقالات وآراء

نحن لا نكره الغرب… لكننا ضدّ الهيمنة والإمبريالية

د. عدنان نجيب الدين
أسئلة كثيرة يطرحها البعض على المثقفين المناهضين للهيمنة الغربية والأميركية خصوصاً، كيف توائمون بين تبنّيكم لكثير من المفاهيم والمناهج الغربية في الفلسفة والاقتصاد والعلوم والتربية وإدارات الدولة وبين انتقادكم بل وعدائكم ومقاومتكم السياسات الغربية وهي نتاج هذه الثقافة؟
كيف تناوئون الغرب وهو على هذا القدر من التطور والإنجازات والابتكارات الصناعية والتكنولوجية والاكتشافات العلمية التي بهرت العالم، وأنتم كما كلّ الشعوب تحتاجونها في كلّ مفاصل وتفاصيل حياتكم اليومية، وعليكم ان تقرّوا، شئتم أم أبيتم، أنكم له تابعون؟
وطالما أنكم تحتاجون كلّ ما انتجه الغرب من سلع في مختلف الميادين، من السيارة التي تقودونها، الى الطائرة التي تستقلونها لتسافروا بها من بلد إلى بلد، وكذلك الانترنت والكومبيوتر وسائر وسائل الاتصالات التي أصبحت ضرورة لا غنى لكم عنها في مؤسساتكم التعليمية والتجارية والمصرفية وغيرها من المجالات، وكذلك لتسيير شؤونكم الحياتية، فضلاً عن السلاح الذي تشترونه للدفاع عن أنفسكم، والمعدات التي تستخدمونها في كلّ القطاعات الطبية والصناعية والزراعية الخ… فلماذا تناصبونه العداء وتتنكّرون لفضله عليكم؟
ونجيب على هذه الأسئلة بالآتي:
أولاً ـ إنّ كلّ ما أنتجه الغرب على الصعد العلمية والمعرفية والفلسفية لم يأت من الصفر. والحضارات تأخذ عن بعضها البعض، وهي كالشجرة التي تمتدّ جذورها في تاريخ المعرفة الإنسانية عبر آلاف السنين. فقد سبق للعرب والمسلمين ان أخذوا عن الحضارات اليونانية والفرعونية والفارسية وغيرها، ثم ما لبثوا بعد تعرّفهم عليها أن بدأوا بالتقليد ثم الابتكار من خلال النظر والبحث واستجواب الطبيعة لفهم أسرارها، فتوصّلوا بدورهم إلى كثير من المعارف وصحّحوا العديد مما كان خاطئاً منها، وذلك في مختلف المجالات الرياضية والفيزيائية والطبية وعلوم الفلك والفلسفة والاجتماع وغيرها، لا سيما انّ القرآن الكريم قد حثهم على التفكر في الطبيعة وفي كلّ ما خلقه الله (وقل رب زدني علماً) (يتفكرون في خلق السماوات والأرض…)، فتفكروا وبحثوا وأبدعوا وأنتجوا، في الوقت الذي كان فيه الغرب غارقاً في ظلامة الجهل. وكانت الكتب والأبحاث والمعارف التي ألفها او اكتشفها علماء المسلمين وفلاسفتهم هي الوحيدة التي تدرّس في جامعات الغرب لعدة قرون لعدم وجود بديل عنها. والكلّ يذكر ابن سينا في الفلسفة والطب والفلك والخوارزمي في الرياضيات واختراعه اللوغاريتمات، وأبو بكر الرازي في الطب لا سيما طب العيون، وابن الهيثم في البصريات، وابن رشد في الفلسفة العقلية والتاويل، وابن خلدون في علم التاريخ وعلم الاجتماع وكثيرين غيرهم لا مجال لتعدادهم هنا. وهكذا، فكما أنّ للغرب فضلاً علينا وعلى سائر الشعوب في تاريخنا المعاصر، فهو لا يستطيع أن ينكر فضلنا عليه واستفادته من حضارتنا، حيث انّ لكلّ أمة نصيباً من النهضة في حقبة من التاريخ تعقبها حقبة من الجمود.
ثانياً ـ من المسلمات اليوم، أنه لا يمكن لأيّ مثقف في العالم ولا لأيّ شعب يريد ان يسير في طريق التطور والحداثة من دون التعرّف على الفلسفات الغربية المعاصرة والأخذ من المدارس الفكرية العظيمة التي ميزتها مثل العقلانية الكلاسيكية، والتجريبية البريطانية، والبراغماتية الاكلوسكسونية، والفلسفة المتعالية، والألسنية والمثالية، والظاهراتية وفلسفات علم النفس وعلم الاجتماع وفلسفة الفنون وغيرها من التيارات الفكرية التي تركت أثرها على الإنسان المعاصر…
كذلك لم يعد ممكناً التطور واللحاق بركب الحضارة من دون الأخذ بأسبابها البعيدة والقريبة لا سيما على صعيد استيعاب العلوم الغربية والمهارات التكنولوجية وسائر العلوم والمعارف. وهذا الطريق هو الذي سلكته الصين وروسيا ومثلها اليابان وكوريا الجنوبية وإيران وغيرها من الدول… تلك هي سنة التاريخ في التطور والتقدم.
ثالثاً ـ نحن لا ننكر، كما ذكرنا، فضل الغرب علينا في كلّ هذه المجالات التي أشرنا إليها. لكننا ننكر عليه سياساته التوسعية والاستعمارية، ومحاولات بسط هيمنته على شعوب العالم ونهب خيراتها ومقدراتها، وإشعال الحروب بين الدول كما حصل في الحربين العالميتين في القرن الماضي، ثم العبث بالسلم الأهلي في البلدان التي ترفض الخضوع لهيمنته، وإثارة الفتن والحروب الأهلية، من خلال تأسيس الجماعات الإرهابية وتسليحها وتدريبها وإلباسها الطابع الديني لتشويه ثقافتنا، كما حصل ولا يزال يحصل في بلداننا العربية، مع ما يعني ذلك من قتل ملايين البشر وتدمير المدن والقرى وكلّ مقومات الحياة عندنا. وكذلك ندين التوجهات الخبيثة لدى بعض مراكزه العلمية البحثية لا سيما في علوم البيولوجيا والكيمياء والطاقة التي تنحرف في مكان ما عن غايتها العلمية وهدفها الإنساني لتذهب إلى تحضير وسائل ومواد قتل الحياة على هذا الكوكب.
وكلّ هذا يحصل بفعل السياسات الغربية المتوحشة والظالمة.
ثالثاً ـ قد يقول قائل: أنتم العرب والمسلمون كانت لكم في التاريخ جولات من الحروب وغزو البلدان الأخرى بحجة نشر الدين الإسلامي فيها، وكان لكم نصيب مما تتهمون به الغرب اليوم. ونردّ على هذا الاتهام الصحيح في شكله وغير الصحيح في مضمونه، لأنّ الدين حدّد آلية التبشير به من خلال (الحكمة والموعظة الحسنة). أما الحروب والغزوات فلم تكن إلا أحداثاً في مسار تاريخ الأمم الساعية لتوسيع سيطرتها جغرافيا، وهذا يفسّر نشوء الامبراطوريات في العالم كالامبراطورية الرومانية والفارسية والإغريقية وغيرها. وهذه المرحلة كان يجب أن تنتهي مع ظهور عصر الأنوار في الغرب وإطلاق شعارات كالتي أطلقتها الثورة الفرنسية مثلاً (حرية، مساواة، تآخي ـ Liberté , égalité ,fraternité ) وقد جرى الترويج في الغرب لهذه الشعارات، لا سيما الحريات على الصعيد الفردي أو الجماعي، وانتهاج النظام الديموقراطي في الحكم، وإعلان التمسك بحقوق الإنسان، واعتماد مبدأ العدالة في التعاملات الدولية. وكان يجب أن تنتهي الحروب والغزوات مع وصول البشرية إلى مرحلة جديدة من النضج والتطور، بعد تخطيها مرحلة الجهل والتخلف، وبلوغها مرحلة الرشد الفكري والمعرفي لا سيما مع ظهور علماء وفلاسفة كبار أمثال كانط وليبنتز وسبينوزا وهيغل وروسو ومونتيسكيو وفولتير ولوك وغيرهم كثير من فلاسفة القرن العشرين أمثال فوكو وسارتر ونيتشه وستروس وفريد وبرغسون وراسل وهوسرل وهابرماس ودوركهايم وريكور إلخ…
لكن، مع ظهور كلّ هؤلاء الفلاسفة العظام الذين كان لهم فضل كبير على الإنسانية من خلال نشرهم الفكر التنويري، وتبشيرهم بالعدالة الاجتماعية وإرساء مفاهيم جديدة تهدف إلى سعادة الإنسان وصون كرامته، نجد انّ الغرب ضرب بعرض الحائط كلّ هذه القيم السامية، وأرسل جيوشه لاستعمار البلدان الأخرى، فإذا به يظهر عدوانيته الفظة وإدارته الظهر لكلّ القيم الإنسانية التي بشر بها فلاسفته العظام من خلال استباحة البلدان الأخرى باحتلال مباشر. وما المجازر التي ارتكبها بحق الشعوب المطالبة بحريتها واستقلالها إلا دليل ساطع على عنصريته، وكأنه يقول إنّ كلّ هذه القيم صالحة فقط لكي تطبق على بلدانه وليس في بلدان الشعوب الأخرى. فاتجهت سياساته إلى غزو البلدان في مختلف القارات، باسطاً سيطرته الاستعمارية عليها، ساعياً إلى نهب خيراتها وجعلها تابعة له لتكون أسواقاً للسلع التي يصنعها.
رابعاً ـ لقد أدى نمو الرأسمال الغربي، وظهور طبقة من الرأسماليين المتوحشين في تفكيرهم وجشعهم إلى بروز ظاهرة الإمبريالية التي جلبت مختلف أنواع المصائب لكلّ الشعوب المضطهدة التي وقعت ضحية لها. وكان من أبرز جرائم الاستعمار والإمبريالية في منطقتنا العربية أن تمّ زرع كيان غريب في فلسطين من خلال التآمر مع المنظمات الصهيونية فجيء بيهود غرباء عن منطقتنا وأسّسوا لهم فيها دولة بعد ان طردوا منها شعبها الأصلي الذي عاش على أرضها مئات بل آلاف السنين، واصبحت هذه الدولة الصهيونية قاعدة عسكرية للغرب للسيطرة على الموارد النفطية في بلادنا وتقسيم الوطن العربي واستغلاله وإدخالها في حروب بينية دائمة، ثم جعل كلّ هذه المنطقة خاضعة له تحت طائلة تهديد الآلة الحربية “الإسرائيلية”.
وبعد أن استقل العديد من البلدان نتيجة نضال مرير وتضحيات جسام، وبعد ان انتهى تقريباً عصر الاستعمار المباشر، وبعد أن بلغت الرأسمالية ذروتها، جاءت ظاهرة الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي توّجت هيمنتها بنشر ظاهرة العولمة مع كلّ ما فيها من مساوئ.
خامساً ـ لا بدّ من التذكير بأنّ مصطلح الإمبريالية جرى استخدامه منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر لوصف عقيدة نابليون بونابرت في التوسع عبر احتلال أراضي البلدان المجاورة. وقد استخدم هذا المصطلح في ما بعد الباحث الاقتصادي الانكليزي John Atkinson كعنوان لكتابه “الامبريالية” الصادر في العام 1902، الذي انتقد فيه السياسة الاستعمارية لبريطانيا. وهذا الكتاب هو الذي أوحى إلى لينين الفكرة التي أطلقها في وصفه الإمبريالية بأنها “المرحلة الأعلى الرأسمالية Le stade suprême du capitalism”،
وقد لخص لينين بحثه عن الإمبريالية بعدة نقاط نذكرها على الشكل التالي:
ـ انّ تركيز الإنتاج ورأس المال وصل الى درجة عالية من التطور مما أدّى إلى نشوء الاحتكارات، وكان لهذا التطور دور حاسم في الحياة الاقتصادية.
ـ لقد أدى اندماج رأس المال المصرفي ورأس المال الصناعي الى إنشاء الأوليغارشية المالية.
ـ انّ تشكيل اتحادات احتكارية دولية للرأسماليين سيؤدي إلى تقسيم العالم، مما يعني نهاية التقسيم الإقليمي للكرة الأرضية بين القوى الرأسمالية العظمى.
وقد اعتبر لينين أنّ الحرب العالمية الأولى هي نتاج الصراع بين القوى الرأسمالية للسيطرة على المستعمرات من قبل الدول المهيمنة. أما الفيلسوفة الأميركية من أصل يهودي ألماني Hanna Arendt فقد ربطت مصطلح الإمبريالية بفكرة التوسع من دون اكتفاء.
وقد أدّت الإمبريالية لاحقاً الى ظهور العولمة التي ألغت الحدود الاقتصادية بين الدول وسمحت بغزو الرأسمال الغربي للدول الفقيرة واستثماره بطريقة استغلالية جشعة لا تخدم سوى مصالح الدول الكبرى. ولهذا اعتبر المناهضون لها أنها تعزز هيمنة الدول القوية على الدول الفقيرة.
وختاماً نقول: إنها مفارقة العلاقة بين الغرب وشعوب العالم المضطهدة. لا قطيعة ثقافية أو اقتصادية، بل اختلال ميزان المصالح لصالح القوى الإمبريالية الغربية.
إنّ مناهضتنا للسياسات الغربية وخاصة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية ليست عداء لشعوب الغرب، وهو ليس عداء حضارياً، فنحن منفتحون على مختلف المدارس الفكرية الغربية، ومقدرون للإنجازات العلمية والتكنولوجية التي حققها الغرب، ولكننا نختلف معه في سياسته الإمبريالية التي تريد السيطرة على بلادنا ونهب ثرواتنا، كما نتعارض معه في دعمه للكيان “الإسرائيلي” الغاصب ذي السياسة العدوانية التوسعية، وإصراره على عدم تحقيق العدالة لشعبنا الفلسطيني وحقه في العودة إلى أرضه، ونعارض حروبه على بلادنا كما حصل في غزوه للعراق، وتدخله في شؤوننا الداخلية، وإثارة القلاقل والاضطرابات والفتن بين مكونات شعوبنا العربية.
إنّ البلدان الفقيرة هي ضحية السياسات الغربية التي تقوم على نهب ثروات الشعوب.
ولذلك نقول: على الغرب أن يقلع عن تغذية التيارات العنصرية وإثارة النعرات الطائفية، وألا يتدخل بالشؤون الداخلية لأيّ بلد، وألا يدعم الأنظمة الفاسدة في العالم. فما من نظام فاسد إلا وله ارتباط عضوي بسياسة الولايات المتحدة، وهذه الأنظمة ستسقط بوعي الشعوب وقوة نضالها ولهذا، لا يتوقعن أحد أن تستسلم شعوبنا للهيمنة الإمبريالية الغربية، ولا للعدوانية الصهيونية، وسيجري التصدي لكلّ الأنظمة التي تسير في فلكهما، وستنتصر شعوبنا وتقرّر هي بنفسها مصيرها، فلا يمكن للظلم أن يدوم. كلّ الإمبراطوريات السابقة سقطت، ومثلها ستسقط امبراطورية الولايات المتحدة الأميركية، فالعالم يتغيّر، والوعي يزداد، والعلم والتكنولوجيا لم يعودا حكراً على أميركا والغرب
إنّ الحرب الدائرة في أوكرانيا بين القطبين الكبيرين: الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها من جهة وروسيا والصين، ومن ورائهما قوى صاعدة كإيران ودول اخرى من جهة أخرى، ستكون أول الغيث في التحوّلات الكبرى، فالغرب بدأ يتصدّع، والاتحاد الأوروبي سائر الى التفكك. أما الحصار الجائر على شعوبنا فسيواجه بالمقاومة بكلّ أشكالها، وفلسطين ستحرر وستعود لأهلها الأصليين، وبدأت ملامح النصر النهائي على سياسات الغرب تظهر، فالمستقبل واعد، وهذا القرن لن يكون كسابقه، فهو قرن أفول نجم الغرب الامبريالي لصالح قوى التحرر الصاعدة، إنّ عالماً جديداً سيولد، وكلّ أملنا أن يكون أكثر إنسانية وتسود فيه العدالة والقيم الأخلاقية، وإنّ غداً لناظره قريب…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى