أولى

عندما ينتصر الفساد على العلم والإبداع!

‭}‬ د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن الفساد في المجتمع المصري، فقد أفردنا العديد من المقالات للحديث عن الفساد، لكن ما نشهده اليوم وعلى كافة المناحي يدفعنا دفعاً للكتابة مجدّداً عن الفساد الذي استشرى داخل بنية المجتمع، والذي جعل الكثير من العلماء والمبدعين يضعف إيمانهم بذلك الطريق الذي اختاروه طواعيّة وظنّوا أنه السبيل لصعود السلم الاجتماعي، فما شهدته الدولة المصريّة منذ مطلع السبعينيات حتى اليوم أسّس لما يمكن أن نطلق عليه بقلب وضمير مستريح دولة الفساد والفهلوة، التي وضع بذورها الجنينية الرئيس السادات عندما أعلن تخليه عن المشروع الوطني والقومي الذي أسّست له ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 حين وضعت الدولة الجديدة المتحررة لتوّها من براثن الاستعمار منظومة قيَم جديدة تُعلي من قيمة العلم والخبرة، وتدعم وتشجع الموهبة، وترفع وتقدّر الإبداع، ويحصل الإنسان على الفرص المتاحة في كافة مجالات الحياة وفقاً لقدراته وإمكاناته وعلمه وخبرته وموهبته وإبداعه، دون أن يضطر للجوء إلى طرق ملتوية وغير شرعية.
وخلال هذه المرحلة تمكن أبناء الفقراء والكادحين من الصعود الاجتماعي عبر الآليات الشرعية التي وضعتها الجمهورية الوليدة، ووفقاً لمنظومة القيم التي تُعلي من شأن العلم والموهبة والإبداع.
وبرحيل قائد الثورة جمال عبد الناصر قرّر تابعه أنور السادات الانقلاب على المنظومة التي بُني عليها المشروع الوطني والقومي المستقلّ، لصالح مشروع التبعية للنظام الرأسمالي العالمي والذي يتطلب منظومة قيَم جديدة تساعد على تكريس التخلف لاستمرار التبعية وعدم القدرة على الفكاك منها، ومن هنا بدأت منظومة القيَم القديمة في التحلل والانهيار لصالح منظومة قيَم جديدة. فالدولة التي بدأ تأسيسها في مطلع السبعينيات تعلي من قيم النفاق والفهلوة والمحسوبية والوساطة والرشوة والولاء للحاكم الفرد وتمجيده، وذلك من أجل الحصول على الفرص المتاحة في كافة مجالات الحياة، ومن هنا وجد من استطاع استيعاب هذه القيَم الجديدة الطريق ممهّداً للصعود والترقي داخل كلّ مؤسسات الدولة، وهو ما جعل أصحاب العلم يختنقون، وأصحاب الموهبة يحتضرون، والمبدعون يموتون كمداً.
وفي ظلّ ما يطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي «إميل دور كايم» حالة الأنومي الاجتماعية أو فقدان المعايير نتيجة انهيار منظومة القيَم القديمة وإعادة بناء منظومة القيم الجديدة وهي الحالة التي تصيب المجتمعات في المراحل الانتقالية، فإنّ المجتمع المصري قد شهد هذه المرحلة منذ مطلع السبعينيات حتى تمكن من بناء منظومة القيّم الجديدة، وللأسف الشديد جاءت منظومة القيَم الجديدة مختلة إلى حدّ كبير وقائمة على الفساد والفهلوة. وفي إطار القيم الجديدة شعر كثير من المواطنين الذين ما زالوا متمسكين بالقيَم القديمة القائمة على العلم والموهبة والإبداع بما يطلق عليه كارل ماركس حالة الاغتراب حتى وهو يعيش داخل مجتمعه. وما يزيد الأمر سوءاً أنه يقع في صراع شديد بين منظومة القيَم التي يؤمن بها ومنظومة القيَم التي يعتمدها المجتمع ويعتبرها الآلية الصالحة للتعايش والحصول على الفرص المتاحة في كافة مناحي الحياة.
وفي ظلّ منظومة القيَم الجديدة التي اعتمدتها دولة التبعية أصبح نموذج الفساد والفهلوة هو النموذج الأكثر شيوعاً وانتشاراً داخل المجتمع. وهو النموذج الذي تمّ تعميمه على كافة المؤسسات وعلى كلّ مناحي الحياة، فلا يستطيع مواطن أن يصعد ويرتقي السلم الاجتماعي والحصول على الفرص المتاحة في كافة مناحي الحياة وداخل مؤسسات دولة الفساد والفهلوة إلا من خلال المحسوبية والوساطة والرشوة والنفاق والعمالة وكتابة التقارير في الزملاء تطوّعاً، لذلك لا عجب «أن تجد كثيراً من المسؤولين في كافة مؤسسات الدولة يتحدّثون ـ بدون حياء أو خجل ـ إلى من يمتلكون العلم والموهبة والإبداع ليؤكدوا لهم أنهم لم ولن يحصلوا على ما يستحقونه من مواقع داخل مجتمعهم لأنهم لا يمتلكون هذه القيم المنحطة، وأنّ صعودهم الاجتماعي وترقيهم الوظيفي لا يعتمد على العلم أو الموهبة أو الإبداع بل يعتمد على قدراتهم على النفاق وتقديم الرشوة وكتابة التقارير في زملائهم».
ولا عجب أن يعاقب أصحاب المبادئ والقيَم النبيلة عبر دولة الفساد والفهلوة التي تخنق العلم والموهبة والإبداع، لذلك إذا أردنا الإصلاح والتغيير الحقيقي فلا بدّ من التخلص من منظومة القيَم التي ترسّخت منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن وبناء منظومة قيَم جديدة تعلي من قيمة العلم والموهبة والإبداع وتحط وتعاقب منظومة الفساد والفهلوة. وبالطبع لا يمكن أن يحدث ذلك بين يوم وليلة فالمعركة تتطلب نفساً طويلاً، يمكن أن يبدأ بإعلان التحرّر من التبعية وإعادة إحياء المشروع الوطني والقومي المستقلّ، ثم الدخول في معركة مواجهة الفساد والفهلوة، وفي النهاية تأتي مرحلة بناء منظومة القيَم الجديدة القائمة على العلم والموهبة والإبداع لتحلّ محلّ القيم السائدة التي تعتمد على الرشوة والمحسوبية والوساطة والنفاق وكتابة التقارير في الزملاء. اللهم بلغت اللهم فاشهد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى