مقالات وآراء

طريقنا إلى السلام بهزيمة المشروع الإمبريالي في منطقتنا

‭}‬ د. عدنان نجيب الدين
ذكر الكاتب الأميركي ويليام بلوم في كتابه «أميركا الأكثر دموية: الديمقراطية» أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عملت الولايات المتحدة على الإطاحة بأكثر من 50 حكومة أجنبية، معظمها منتخبة ديمقراطياً، وتدخلت على نطاق واسع في انتخابات ديمقراطية في 30 دولة على الأقلّ، وحاولت اغتيال أكثر من 50 من القادة الأجانب «.
وقبل ذلك، أيّ بين العامين 1898 و 1930، تدخلت الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً في بلدان العالم 31 مرة، أيّ مرة واحدة في السنة. كانت هذه تدخلات عسكرية مباشرة، من دون إقامة مستوطنات. وجرت العودة اليها بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في كوريا وفيتنام وكثير من البلدان الأخرى. ثم أقامت الولايات المتحدة شبكة عالمية من القواعد العسكرية التي تهدف إلى ترهيب الأعداء والدول المحايدة خلال الحرب الباردة. وكانت العودة لهذه السياسة منذ عام 2001 إذ شهدنا غزواً مسلحاً لكلّ من أفغانستان والعراق نتج عنه ملايين الضحايا البشرية فضلاً عن التدمير الهائل للبنى التحتية، إضافة الى تأسيس منظمات إرهابية سبقت الغزو أو تلته.
وهذا يقودنا إلى فهم أوضح لمفهوم الإمبريالية الأميركية، التي هي عقيدة تدعو إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية للدول الأقوى على تلك الدول الضعيفة تقنياً والمتخلفة أو المنقسمة على نفسها.
وكتب ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، على موقع مجلة فورين بوليسي: «الحملات التي لا نهاية لها في الخارج تطلق العنان لمجموعة من القوى السياسية ـ العسكرية، بما في ذلك السرية منها، وكذلك تزايد سطوة السلطة التنفيذية، وكراهية الأجانب، والوطنية الزائفة، والديماغوجية، وما إلى ذلك ـ كلها تتعارض مع الفضائل المدنية التي تعتمد عليها الديمقراطية السليمة».
وانطلاقاً مما ذكره الكاتب ستيفن والت، فقد وصلت الإدارات الأميركية المتعاقبة الى قناعة بضرورة استبدال التدخل العسكري بالحصار والضغط الاقتصادي على كلّ دولة لا تنصاع لسياستها وهيمنتها. ويتمثل هذا الضغط الاقتصادي بحظر الاستثمار الأجنبي، والضغوط المالية ومنع المساعدات المختلفة عنها، وصولاً إلى حظر التجارة معها وكذلك منع التعاملات المالية والمصرفية. وهذا ما تسمّيه بتطبيق العقوبات من جانب واحد، دون الذهاب إلى أيّ محكمة دولية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة، وتلك هي الإمبريالية الاقتصادية.
ولا تقتصر هذه الهيمنة على مفهوم «القوة الناعمة» التي حلّت محلّ القوة العسكرية، بل ذهبت إلى الهيمنة الأيديولوجية، التي تُعرَّف بأنها القدرة على الحصول على ما هو ضروري عن طريق الإقناع بدلاً من الإكراه أو المكافأة. ويحدث هذا بسبب الجاذبية التي تمارسها على ثقافة البلد المطلوب إخضاعه، من خلال منظمات تعمل تحت مسمّيات مختلفة وتقدّم بعض الخدمات والمعونات المحدودة جداً، وعبر إقامة ماكينات إعلامية كبرى لها تأثير واضح على الرأي العام سواء في البلدان التي تتعرّض للضغط العسكري أو الاقتصادي، او في داخل أميركا والدول الغربية نفسها لتبرير هذه الممارسات العدوانية وإلباسها لباس الدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان.
وتبع ذلك ما يمكن تسميته «بدبلوماسية الدولار» حيث جرى استقطاب الرساميل الأجنبية إلى داخل الولايات المتحدة الأميركية من خلال بث انعدام الأمان وانعدام الاستقرار والخوف على رؤوس الأموال وإثارة الهلع لدى أصحابها في البلدان الضحية، ما يدفعهم لتهريب أموالهم إلى أميركا أولاً، حيث المعدلات المتدنية للفوائد، وكذلك إلى أوروبا، لكي تساهم هذه الأموال في بناء القوة الاقتصادية الأميركية والغربية.
ولا ننسى أنّ الدولار قد ظلّ هو العملة الاحتياطية الأولى في العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية بعد الاتفاق الذي حصل مع بريطانيا واسترهان الذهب الأوروبي لدى أميركا… وكانت الطريقة الوحيدة لاستخدام فائض الدولارات الأميركية المحتفظ بها في الخارج هي استثمارها في الولايات المتحدة التي شجعت على شراء سندات الخزينة لديها، وهكذا أصبحت الولايات المتحدة القوة الاقتصادية والمالية الأكبر في العالم التي يمكنها إقراض البنوك المركزية في مختلف الدول. وهذا ما ساعدها على تمويل حروبها وتنفيذ مخططاتها في سرقة ثروات العالم، من خلال ترهيب الدول الممانعة أو ترغيبها عبر تشجيع الحكام على ممارسة الفساد في بلادهم مع غضّ النظر عما يقومون به من نهب أموال شعوبهم ووضعها في البنوك الغربية.
وقد تسبّب الارتفاع الحاد في أسعار النفط خلال خريف عام 1973 في زيادة عائدات النقد الأجنبي للبلدان المنتجة للنفط والتي كانت أكبر من أن يستوعبها اقتصادها. فكان لا بدّ من إعادة تدوير هذه «الدولارات البترولية» في استثمارات منتجة في بقية العالم، مع قيام الأوروبيين واليابانيين بالترويج لعملية إعادة التدوير هذه من خلال بنوكهم المركزية وصندوق النقد الدولي. وأصرّت الولايات المتحدة، بدعم من بريطانيا، على أنّ هذه التحويلات تتمّ بشكل أساسي من خلال البنوك الخاصة. وكانت أكثر نفوذاً مع أمراء النفط فأزالت القيود المفروضة على حركة رأس المال من وإلى الولايات المتحدة.
وهكذا، فإن الإمبريالية الأميركية بشقيها الاقتصادي والعسكري يدعم أحدهما الآخر. فمن جهة، صار التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة يسمح لها بتجهيز جيش ضخم دون فرض ضرائب مفرطة على الأميركيين، ومن جهة أخرى. ساهمت الدول الأجنبية بشكل أساسي في تمويل هذه السياسات من خلال دبلوماسية الدولار، وأحياناً بوسائل أكثر مباشرة، كما حدث أثناء حرب الخليج عام 1991. وهذان العنصران الاقتصادي والعسكري لا يزالان يشكلان ذراعي الاستراتيجية الإمبريالية التي تستخدمها الولايات المتحدة.
وتوضح خريطة الصراعات منذ عام 1991 أنّ كلّ حرب شنتها الولايات المتحدة الأميركية، ومنها حروب الخليج وكوسوفو والبوسنة وأفغانستان والعراق، أدّت إلى بناء قواعد أميركية حول حقول النفط والغاز الطبيعي في الشرق الأوسط والقوقاز. لذلك يبدو أنّ السياسة الأميركية هي نفسها دائماً.
وبناء عليه، يمكن صياغة الفرضية التالية: عندما لا تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد على قوّتها الإكراهية في الأسواق الاقتصادية، تعمد الى استخدام قوّتها العسكرية لضمان تلبية احتياجاتها من الطاقة أو التحكم بها أيّ في إنتاجها وتسويقها وجذب عائداتها إلى البنوك عندها أو استثمارها في مختلف الصناعات الإنتاجية كصناعة السلاح وبيعه ثم إثارة الفتن والعداوات بين الدول أو داخل كلّ دولة.
وهذا ما نشهده اليوم في حرب أوكرانيا حيث أمرت الدول الأوروبية الشرقية التي كانت سابقاً تشكل مع روسيا الاتحاد السوفياتي بالتخلص من أسلحتها القديمة عبر تزويد أوكرانيا به، ثم استبدالها بالأسلحة الأميركية ودفع ثمنه من اقتصادياتها لتكبير حجم الاقتصادي الأميركي أو وقف تراجعه. وهذا ما نشهده أيضاً ومنذ سنوات من خلال تكبير الخطر الإيراني على دول الخليج فباعت لها أسلحة بمئات المليارات من الدولار استخدم قسم كبير منها في حرب اليمن.
وعندما تفشل الولايات المتحدة في تطويع الدول عبر الغزوات العسكرية المباشرة، تلجأ للتدخلات بمختلف أشكالها لقلب نظم الحكم فيها أو إجبارها على تغيير سلوكياتها لتتماشى مع مصالح أميركا والغرب عموماً ولو كان ذلك على حساب مصالح شعوبها ومستقبل أجيالها. وهكذا، بعد أن انحسر النفوذ الاستعماري المباشر للقوى الغربية في القرن العشرين، استبدلت هذه القوى سياساتها بأخرى أكثر فائدة بالنسبة لهم، تتلخص بالعبارة التي قالها اللورد كرومر عن الإمبراطورية البريطانية: «نحن لا نحكم مصر، نحن نحكم فقط حكام مصر». وما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية في عصرنا هذا هو استخدام القوة العسكرية كتهديد، وإذا لم يؤدّ هذا التهديد غرضه، وإذا كانت لا تكفي الجيوش العسكرية لعمليات غزو مباشر لبلد خارج عن الهيمنة الأميركية يتمّ اللجوء إلى تدخلات سريعة ولفترة قصيرة وعادة ما تكون دقيقة، فتتسبّب بأضرار جسيمة عند قصف الموانئ او يجري إنزال مشاة البحرية بهدف قلب النظام القائم.
كما أنها عندما تفشل في استخدام قوّتها العسكرية لتغيير الأوضاع في بلد ما، تلجأ إلى فرض عقوبات من خارج منظمات الأمم المتحدة، أيّ فقط من جانبها وجانب الدول الأوروبية التي تدور بفلكها، وسبق وذكرنا أنّ هذه العقوبات تتمثل بالحصار الاقتصادي ومنع التعامل التجاري وحجب أيّ مساعدة عن أيّ دولة معاقبة ولو كانت على سبيل الهبات والمعونات غير المشروطة كما حصل ويحصل الآن مع لبنان الذي مُنعت عنه الهبات الإيرانية والروسية، وكذلك استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن. ولم تسلم دول كبرى من العقوبات الأميركية والأوروبية من العقوبات المفروضة كروسيا والصين ودول أخرى صارت تعاني اقتصادياً مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وسورية إلخ…
وتعتبر هذه العقوبات غير قانونية لأنّ الفصل السابع وحده من ميثاق الأمم المتحدة هو الذي يشكل الأساس القانوني لفرض العقوبات على أيّ دولة. فمجلس الأمن هو «الهيئة المخوّلة اتخاذ تدابير لا تنطوي على استخدام القوة المسلحة، بهدف نهائي هو صون أو استعادة السلم والأمن الدوليين». وأكثر أنظمة العقوبات شيوعاً هي تلك التي تهدف إلى عدم انتشار الأسلحة النووية، أو مكافحة الإرهاب، أو حلّ النزاعات، أو دعم الأنظمة الديمقراطية في مواجهة التحديات والانقلابات العسكرية. ولكن الولايات المتحدة الأميركية التي تدّعي الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والحفاظ على الشرعية الدولية، نراها لا تقيم وزناً لأيّ شعب من شعوب العالم، ولا للمواثيق والقوانين الدولية، بل تسعى من خلال عقوباتها إلى تجويع هذه الشعوب بهدف إركاعها ونهب ثرواتها.
ولو كانت الإمبريالية الأميركية والغربية تسعى الى العدالة والسلم العالمي لما قامت بكلّ تلك الحروب، ولما نفذت كلّ مخططاتها الإجرامية بحقّ دول كثيرة ومنها دولنا العربية عبر ما سمّته بالربيع العربي، وقد كان وبالاً على شعوبنا، فكلّ جرائم الإرهاب الأميركي التي نفذتها جماعات تابعة لها تخطيطاً وتسليحاً وتدريباً ونسجاً لعقيدة الإسلاموفوبيا وإلحاق صفة الإرهاب بالإسلام الذي هو كالمسيحية دين سلام ومحبة ورحمة وعدل وتسامح، كلّ ذلك لعرقلة تطور المجتمعات العربية والإسلامية وجعلها تعيش في التاريخ بدل أن تخرج منه لتصنع مستقبلها وتساهم في صنع مستقبل العالم على قواعد الأخلاق وحقوق الإنسان في الكرامة وتأمين الغذاء والدواء والتعليم وإيجاد فرص العمل والعيش في مجتمعات آمنة مستقرة وعادلة.
اما وقد نشبت الحرب بين أميركا والغرب عموماً على الأرض الأوكرانية، وما يرافق هذه الحرب من ضغوط كبرى عسكرية واقتصادية ومالية ومعيشية، فإنّ نتيجة هذه الحرب هي التي ستحدّد مصير الولايات المتحدة والغرب، بل وروسيا والصين والعالم بأجمعه في القرن الحالي وربما الى أبعد منه. وتشير بعض الدراسات الموضوعية الى أنّ الأزمة أو الحرب العالمية الراهنة ستغيّر وجه العالم ولن تعود الأوضاع فيه إلى ما قبل هذه الحرب. لكن المؤكد أنّ الهيمنة الإمبريالية الأميركية والغربية سوف تنتهي لصالح الدول التي واجهت المشروع الغربي وهيمنته التي طالت وأصابت العالم بالكثير من الويلات الناتجة عن الحروب العسكرية والاقتصادية التي شنّها الغرب طيلة قرنين من الزمان وأكثر. والمطلوب اليوم مقاومة كلّ الضغوط الأميركية والغربية على شعوب العالم، عبر التصدي لها ومقاومة أدواتها من الحكام الفاسدين، والوقوف في جبهة واحدة لهزيمة المشروع الإمبريالي وإنهائه وبناء عالم جديد تسوده العدالة والتنمية الحقيقية بعيداً عن الاحتكارات والحروب العدوانية. وعندما تتراجع قوة الإمبريالية تتراجع معها قوة الصهيونية العالمية ويضعف تأثيرها، وعندئذ سنرى بداية النهاية للكيان «الإسرائيلي» في فلسطين لا سيما مع تصاعد المقاومة الفلسطينية التي بدأت تقضّ مضاجع العدو المحتلّ، بحيث بدأ كثير من المستوطنين يحزمون حقائبهم للعودة خائبين إلى البلدان التي أتوا منها، ولنا كلّ الأمل بأن تعود فلسطين إلى شعبها حرة، ويومئذ سيعمّ السلام في منطقتنا ويفرح الحالمون بغد أفضل…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى