أنيس المقاومين…
شوقي عواضة
حتّى في لحظات المرض الحرجة لم يجفَّ يراع الثّائر الأبيّ من حبر المقاومة. لم تغب فلسطين عن ذاكرته وهو طريح الفراش يصارع الموت، كان يرقد في قلب المقاومة دمشق التي يعشق ويتابع بكلّ إصرار التّطوّرات في صنعاء وبيروت وبغداد، ولأنّه لا يعرف الهزيمة لم يستسلم خالد اللّبناني للفايروس الأميركيّ، بل كان يعدّ الأيّام والسّاعات والدّقائق للخروج مجدّداً إلى ميادين الجهاد والمقاومة التي وهبها حياته حتى الرّمق الأخير فكان أنيس المقاومين ونقاش الانتصارات.
تحت عنوان (إنّها ثورة فلسطين بامتياز) كتب أنيس النّقاش قبل وفاته بأربعة أيام آخر مقالاته في ذكرى انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران وكأنّه كان يكتب وصيته الأخيرة لكلّ أحرار العالم. لربما لم يبح بكلّ شيءٍ لكنّه كان يصوغ أبجديته الثّوريّة على جدران القلب ويعلن ويبوح بانتمائه لفلسطين ويعيد تشكيل خارطة الأحرار ويملي على محبيه قواعد الانتصار. يستحضر في وداعه الأخير هامات الرّجال الرّجال ويطلق عينيه نحو الأفق الأعلى فتلاقيه وجوه السابقين من الشهداء فترتسم على شفتيه البشرى ليغمد يراعه في محبرة الحقيقة ويخط بمداد الشّهداء آخر عناوينه من حيث البداية فلسطين.
يخبرنا بأنّ قوّة القدس، خاصّة والحرس الثّوري عموماً كان لهما الفضل، ليس فقط في دعم لبنان لتحرير أراضيه وهزيمة العدوّ واندحاره، بل أيضاً بصمود الشّعب الفلسطينيّ وبناء قوّته الذّاتيّة التي تهدّد مستقبل وبقاء الكيان، يكشف عن دور الحرس الثّوري في مواجهة مؤامرات الأعداء كافّة من احتلال العراق وأفغانستان إلى الحرب الكونيّة على سورية ومواجهة التّكفيريين والإرهاب الدّولي التي اتخذت أشكالاً متعدّدةً ومسمّيات أكثر تعدّداً لكنّها بالرّغم من ذلك لم تكن لتخرج عن مسار واتجاهات وتوجيهات الاستراتيجيّات الأميركيّة والصّهيونيّة المتعاقبة والمتنوّعة والهادفة لإخضاع المنطقة لهيمنتهم.
كان أنيس النّقاش الثّائر بقوميّته وعروبته وناصريته أوّل المناصرين للمقاومة الفلسطينيّة وكان له مساهمة كبيرة في الكثير من العمليّات الخاصّة مع القائد في الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين وديع حداد ومن تلك العمليّات اقتحام مقرّ منظمة أوبك في فيينا سنة 1975 مع الفنزويلي الشّهير كارلوس أو ايليتش راميريز سانشيز حيث تمّ احتجاز وزراء النّفط في عمليّةٍ خاصّةٍ، إضافة إلى محاولة اغتيال آخر رئيس وزراء إيراني في عهد الشّاه شهبور بختيار في باريس عام 1980 في عمليّةٍ خطّط لها ونفّذها أنيس نقاش بنفسه بالتّعاون مع إيرانيَّين وفلسطينيّ ولبنانيّ لكنّه وقع في قبضة السّلطات الفرنسيّة بعد أن أصيب برصاصةٍ واعتقل وحكم عليه بالسّجن المؤبّد ليتمّ الإفراج عنه بعد عشر سنوات من الاعتقال في السّجون الفرنسيّة.
عاد أنيس النقاش إلى بيروت محطِّماً قضبان سجنه متابِعاً مسيرته النّضاليّة التي امتزجت بنضالاته في المقاومة الفلسطينيّة وعمّق علاقاته بالشّهداء خليل الوزير ووديع حداد والجنرال قاسم سليماني وقادة المقاومة فكان الثّائر العابر للحدود والمقاوم المتجدّد والمتابع الرّاصد لسياسات الكيان الصّهيوني المؤقّت ليبني عليها مآلات الصّراع وتوجّهاته.
رحل أنيس النّقاش دون أن تكتمل روايته الأخيرة لكنّه خطّ وصيته التي وشمها بالحقيقة في آخر مقالاته قائلاً إنّ إيران الثّورة، ومن خلال وضع القدس وفلسطين بوصلة تقود كلّ توجّهاتها الاستراتيجيّة، ليس في الإقليم فقط بل في العالم جعلت من إيران الثّورة الندّ القوي والمواجه الأساسيّ لكلّ مشاريع الغرب عموماً وأميركا والكيان الصّهيوني خصوصاً. اليوم ومع اكتمال الطّوق المقاوم حول دولة الكيان الصّهيوني، نجد أنّ بعض الدّول العربيّة قد ذهبت لإقامة حلف لأسرلة المنطقة ووضعها تحت نفوذ هذا الكيان، ولكنّها لم تتنبّه إلى أنّها وضعت نفسها تلقائياً ضمن الجحر المحاصر من قبل محور المقاومة، والطّوق الذي أُطبق على الكيان أصبح يضمّها.
كان بن غوريون يحلم بمحاصرة الأمة العربيّة ببعض الدّول، فإذا بدولته وكيانه محاصران من محور مقاوم شديد البأس، ينتقل من نصرٍ إلى نصرٍ ويعزّز قدراته ويفاقم من إمكاناته ونطاق وجوده وانتشاره، ولذلك نستطيع القول اليوم، إنّ ما خُطّط له قد ذهب هباءً منثوراً، وإنّ آخر منتجات الغدر والخيانة المتمثّل «بحلف الأسرلة» لن يكون مصيره أفضل ممّا كانت مصائر حروبه المتعاقبة واعتداءاته الغادرة. فكانت آخر وصايا أنيس المقاومين فلسطين التي لم تخرج بوصلته وعملياته أينما كانت عنها وهو الذي كان فلسطينيّاً ولبنانيّاً وسوريّاً ويمنيّاً وعراقيّاً وإيرانيّاً من أجل فلسطين.