أولى

ما الذي تحضّره أميركا لإيران حرب أم عدوان محدود أو ضغوط؟

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
عندما وقعت إيران الاتفاق الدولي حول ملفها النووي السلمي كانت تأمل بأن تطوى صفحة القضية وتنطلق في عملية تطوير اقتصادها بتسارع توفره الأموال الإيرانية التي سيُفرج عنها نتيجة هذا الاتفاق، إلا انّ الظن الإيراني لم يتحقق بشكل يريح صاحبه حيث ماطلت أميركا في تنفيذ التزاماتها وبشكل خاص في مسألة الأموال وحتى في معظم ما تسمّيه تجاوزاً “عقوبات”.
استمرت إيران متمسكة بالاتفاق النووي رغم الإخلال الأميركي به، لكن الأمر تطور سلباً على الجانب الأميركي بعد أقلّ من سنتين من توقيع الاتفاق، حيث أقدم دونالد ترامب بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، على الانسحاب كلياً من الاتفاق، في سلوك كان يؤمل منه ان تردّ إيران بالمثل ما يمكنه من إعادة الملف الى مجلس الأمن والعودة بعدها إلى فرض رزمة العقوبات الدولية التي رفعت بموجب الاتفاق، لكن إيران خيّبت ظنه وتعاملت مع المسألة بذكاء وفطنة وحذر بحيث جمعت في سلوكها أمرين الأول احترام الاتفاق بشكل مبدئي وعام للمحافظة عليه خاصة أنه مثبت بقرار من مجلس الأمن، الثاني التحلل من الالتزامات الاختيارية وما يشبهها بحيث تشكل عنصر ضغط على الآخرين.
نجحت إيران في استراتيجيتها هذه، وحققت نجاحاً آخر على الصعيد الاقتصادي حيث إنها تمكنت من التكيّف مع عقوبات أميركا الأحادية الجانب، وحوّلت التحدي الى فرصة جعلت الأميركي الذي يمارس ضدّها سياسة “الضغوط القصوى” يدرك انّ ما يسمّيه “عقوبات” حوّلته إيران في أكثر من وجه الى فرصة تحفز اقتصادها وتدفع به في اتجاه الاكتفاء الذاتي، أما في المجال النووي فقد قامت إيران ومع احترام التزاماتها الدولية والقانونية، بتطوير تجاربها وعمليات التخصيب التي رفعتها من 3,85% كما كانت ألزمت نفسها في الاتفاق الى 5% ثم 6% ثم 20% ما جعل أميركا تشعر بالخيبة والخسران، وجعل “إسرائيل” التي صفقت لسحب توقيع أميركا عن الاتفاق، جعلتها في حال من قلق دفعها للتهديد المتصاعد باللجوء الى العمل العسكري لتدمير المشروع النووي الإيراني كما فعلت يوماً مع المشروع النووي العراقي.
في مواجهة السلوك الإيراني ووفاء لوعوده أثناء حملته الانتخابية، أبدى جو بايدن بعد تسلمه مقاليد الرئاسة الأميركية رغبة بإحياء الاتفاق النووي مع إيران، وأضمر نيته باتخاذ التفاوض حول الموضوع مدخلاً لمعالجة أكثر من ملف يعني أميركا في الشرق الأوسط ـ غربي آسيا فضلاً عن برامج التسلح الإيراني والتي في طليعتها البرنامج الصاروخي وبخاصة البالستي والدقيق فيه، وكان بايدن يتصوّر بأنه قادر على ابتزاز إيران في هذه المسائل ويمكنه دفعها الي إعطائه ما عجزت حروبه المباشرة او البديلة او غير المباشرة على تحقيقه في اليمن وسورية ولبنان والعراق وبخاصة في مسألة المقاومة التي تقض مضاجع “إسرائيل”.
بيد أنّ إيران التي رحبت بالعودة الى تفاوض غير مباشر مع أميركا، أصرّت على حصر المفاوضات بهذا الملف دون إضافة او إقحام أيّ أمر آخر، وناورت أميركا طيلة سنة كاملة او يزيد وفشلت في الضغط على إيران لإجبارها على الاستجابة ففشلت، ما تسبّب بوقف التفاوض أولاً ثم انفجرت مسألة أوكرانيا واهتزت شبكة العلاقات الدولية بشكل جعل أميركا تُخرج الملف النووي الإيراني من جدول أولوياتها لا بل من لائحة اهتماماتها الراهنة مع الاستمرار بسياسة “الضغوط القصوى” والتشدّد بالحرب الاقتصادية ضدّها وضدّ مكونات محور المقاومة الأخرى بخاصة سورية ولبنان.
ومرة أخرى جاء السلوك الإيراني مخيّباً لأميركا إذ انّ إيران استمرت صاعدة في عمليات التخصيب حتى بلغت مستوى الـ 60% مستبقة ذلك بتقييد عمليات التفتيش التي تجريها “الوكالة لدولية للطاقة الذرية” التي اتهمتها إيران بأنها تقدّم خدمات استخبارية لأميركا تمسّ بالأمن القومي الإيراني، وأحلّت نفسها من أيّ التزام اختياري أو شبه إلزامي في المجال النووي، ترافق ذلك مع دعوات إيرانية داخلية لمراجعة القرار الإيراني بشأن رفض إنتاج الأسلحة النووية، وبعد ذلك تسرّب القول بأنّ التخصيب الذي تجريه إيران لامس الـ ٨٣٪ نسبة جعلت «إسرائيل» تحذر من ان إيران باتت على مسافة ١٢ يوماً فقط من صنع القنبلة الذرية.
وحتى يتعاظم القلق والغيض لدى من يناهض إيران، جاء الإعلان عن اكتشافات مذهلة لكميات من الليثيوم في إيران، تجعل منها، اذا صدقت التقديرات، الدولة الثانية او الثالثة في العالم في المخزون من هذه المادة الهامة، طبعاً اكتشاف كان من شأنه ان يسيل لعاب أميركا نظرا لأهمية هذه المادة في التطوير الصناعي الحديث واشتداد الطلب العالمي عليها لاستخدامها في بطاريات السيارات الكهربائية والالكترونيات، ما افهم أميركا أنها في كل مرة تقفل بابا او تطلق تهديدا بوجه إيران تأتي النتائج بفتح أبواب وتذليل صعوبات وتجاوز مخاطر ما يشكله السلوك الأميركي.
امام هذا الواقع يبدو ان أميركا رأت من مصلحتها الآن التلويح بالخيار العسكري لمعالجة كل ما يقلقها في الساحة الإيرانية، خيار يطرح وتحاول أميركا ان تسبغ عليه الصفة الجدية، خاصة بعد فشل محاولات أميركا الاستثمار في قلاقل واضطرابات إيرانية داخلية، حيث استطاعت طهران ان تحتوي الاحتجاجات المحدودة وتفرض الامن الداخلي والعام بشكل لا يريح أميركا. وتحضيراً لهذا الخيار العسكري وتأكيداً على جديتها فيه نظمت أميركا «هجوماً على المنطقة» ينفذه مسؤولون أميركيون من مدنيين وعسكرين يطوفون على دول المنطقة، لجس النبض وتهيئة البيئة لوضع هذا الخيار موضع التنفيذ، فهل ستنفذ أميركا ما تلوح به؟
قبل الإجابة لا بد من التنويه الي ان إيران وعملا بسياسة سحب الذرائع، عادت وبثت الحرارة في علاقتها بالوكالة الدولية للطاقة الذرية واستقبلت مبعوثيها ووقعت معها اتفاق العودة الي برنامج التفتيش، وأعادت تركيب كاميرات في بعض المنشآت النووية، وأعلنت جهوزيتها للعودة الى التفاوض غير المباشر لإحياء الاتفاق النووي. تدابير اتخذتها إيران مشترطة ان تمارس الوكالة الدولية عملها بحرفية ومهنية بعيدة عن التسييس ودون تجاوز الصلاحية بما ينتهك الامن او السيادة الإيرانية، فهل ستكون التدابير الإيرانية كافية لتعطيل ما تلوح به أميركا من اللجوء الي الخيار العسكري؟
تعلم أميركا ان إيران اليوم ليست كالعراق ٢٠٠٣ وان لدى إيران من القدرات الذاتية والقوة التحالفية ما يمكنها من الدفاع عن نفسها وعن برنامجها النووي السلمي وعن ثرواتها، ثم ان لديها من القوة الذاتية والحلفاء ما يمكنها من الرد المؤلم على أميركا بذاتها عبر قواعدها العسكري المنتشرة في مرمى الصواريخ الإيرانية البالستية، وكذلك فإن «إسرائيل»، محور الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، هي برمتها في مرمى آلاف الصواريخ التي تنطلق بأمر إيراني او بالتنسيق مع إيران او نصرة لها. وفضلا عن ذلك تعلم أميركا ان احتلال إيران امر غير متاح لها وفقا لموازين القوى والقدرات، اما العدوان لتدمير المشروع النووي او سواه فأنه سيلقى الرد المؤلم فضلا عن انه لن يمنع إيران من مواصلة مشروعها لاحقاً، لكل ذلك نقول ان قرارا أميركيا باللجوء الى العمل العسكري لن يكون امرا سهلا وحتى اللحظة إننا نستبعده ما لم تكن ساعة من تخلٍ لا بل تهور وجنون.
فاذا استبعدنا مبدئيا الحرب والاحتلال والعمليات التدميرية المحدودة فانه يكون منطقياً السؤال لماذا تصعّد أميركا الآن وتهدد مع إسرائيل بالخيار العسكري؟
جوابنا هنا ان أميركا وبعد سلسلة الخيبات الدولية من سورية الى اليمن ثم الى أوكرانيا فضلا عن الانسحاب المهين من أفغانستان، وبعد تجنبها المواجهة المباشرة مع روسيا واكتفائها بدور المخطط والمجهز للحرب البديلة في أوكرانيا، وبعد ما تعانيه من مصاعب في الشرق الأقصى بوجه الصين وكوريا الشمالية، بعد كل هذا بحاجة للتذكير بقوتها العسكرية واستعدادها لاستعمالها وأنها لم تدخلها بعد مهاجع الاحتياط وهي بحاجة لها من اجل الضغط في السياسة والمحافظة على الهيبة، لذلك نقول إن خيار العمل العسكري الأميركي– الإسرائيلي ضد إيران ورغم القول بأنه موضوع على الطاولة، يبقى خياراً مستبعد الإعمال ان حكم المنطق والعقل والا…. قد نكون أمام قرار متهور يدفع بالمنطقة الى حيث تندم إسرائيل وأميركا وكل الغرب الأوروبي أيضاً.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى