أولى

العملة الخضراء: ما بين وادي السيليكون والوادي السحيق!

‭}‬ د. علي أكرم زعيتر
ماذا بعد انهيار المصارف الأميركية الثلاثة (وادي السيليكون SVB)، (سيلفر كورب)، (فيرست ريبابليك) وشقيقها السويسري (كريديت سويس Credit Suiss)؟ هل ستكرّ سبحة الانهيارات المصرفية في الولايات الأميركية وأوروبا؟ هل من مصارف أخرى تجلس على مقاعد الانتظار، أم أنّ الأمر سيقف عند هذا الحدّ؟
إذا امتدت رقعة الانهيارات المصرفية داخل الولايات المتحدة وخارجها، فهذا يعني أنّ العالم على أعتاب أزمة مالية غير مسبوقة، تفوق مثيلاتها عامَي 1936 و 2008، فما مدى احتمال وقوع كارثة بهذا الحجم؟ وما مدى تأثيرها، وهل الأمر وارد أصلاً؟ وماذا عن سعر صرف الدولار في الأسواق العالمية؟ هل ستتراجع قيمته عالميّاً، أم سيبقى صامداً في وجه الأزمة؟ وأخيراً، ما النصيحة التي يمكن أن نوجهها للبنانيين والعرب بهذا الخصوص؟ هل من الصائب أن يحتفظوا بدولاراتهم بعد اليوم، أم الأجدى أن يشتروا بها عملات أخرى أو حتى عقارات ومقتنيات ذهبية (ليرات، أونصات، سبائك)؟
لمحة عامة
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في مقالنا، ولكن قبل ذلك علينا أن نعيد تذكير القارئ الكريم بما يلي:
أ ـ عرف العالم المعاصر نوعين من الأنظمة الاقتصادية ـ السياسية: النظام الليبرالي ـ الرأسمالي، والنظام الاشتراكي ـ الشيوعي.
ب ـ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، لم يعد للنظام الاشتراكي تأثير يذكر. لقد أصبح مسرح الاقتصاد العالمي متروكاً للنظام الرأسمالي، لكي يسرح ويمرح على هواه. ما يعني أنّ الاقتصاد العالمي حاليّاً يُساق بالعصا الرأسمالية الغليظة.
ج ـ ليس جديداً على النظام الرأسمالي ما يحصل حاليّاً في أميركا، فالركود والكساد الاقتصادي سمتان أساسيتان من سمات النظام الرأسمالي. وهو عرضة على الدوام لهذا النوع من الأزمات.
د ـ قبل بضعة أيام استفاق العالم على خبر انهيار مصرف وادي السيليكون (SVB) الأميركي، وهو مصرف تجاري يعنى بتقديم قروض ميسّرة للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا، ويصنّف من ضمن أكبر ستة عشر مصرفاً أميركيّاً، من حيث قيمة الأصول المالية.
علماء الاقتصاد، منقسمون على أنفسهم حيال ما يجري!
حتى الأمس، لم يكن بمقدور أحد التكهّن بما سيؤول إليه أمر الاقتصاد العالمي، بعد انهيار المصارف الأميركية الثلاثة، ولكن يبدو أنّ الأمور باتت أكثر وضوحاً اليوم، بعدما رسى أرباب الاقتصاد، والمتخصّصون في هذا الشأن على رأيين، أو احتمالين، هما:
1 ـ انهيار تام للنظام المصرفي الأميركي، يليه انهيار مماثل أو بوتيرة أقلّ للنظام المصرفي العالمي، ما يضع العملة الخضراء في مهبّ الريح، ويجعلها عرضة لتقلبات السوق العالمي.
2 ـ نجاح المعالجات التي شرع فيها الفيدرالي الأميركي فور تعثر المصارف الثلاثة، ما يعني تحجيم الأزمة واقتصارها على ما هي عليه حاليّاً.
أصحاب الرأي الأول
يعتقد أصحاب الرأي الأول أنّ هناك الكثير من الأسباب الموجبة التي حدت بهم إلى تبني هذا الرأي، منها:
ـ تمدّد رقعة الانهيارات المصرفية لتطال أنحاء أخرى من العالم الغربي (سويسرا).
ـ الأزمة الراهنة ليست وليدة الصدفة، بل هي ناجمة عن سياسات نقدية خاطئة انتهجها الاحتياطي الفدرالي الأميركي (البنك المركزي)، قبل نحو ثلاث سنوات، تحديداً مع تفشي جائحة كورونا، حيث اضطر الفدرالي الأميركي وقتذاك، إلى طباعة المزيد من الأوراق النقدية الخصراء، بغية تغطية تكاليف الأعباء الصحية، الأمر الذي خلق فائضاً من العملة الخضراء في السوق الأميركية، حاول الفدرالي الأميركي امتصاصه من خلال رفع الفائدة على سندات الخزينة، لكن محاولته جاءت بنتائج عكسية تماماً.
فاضطرار السلطات الأميركية إلى تغطية تكاليف العلاجات، دفعها إلى الطلب من الفدرالي الأميركي طباعة المزيد من الأوراق النقدية، ما خلق كتلة نقدية هائلة في السوق، ولمَّا كان من شأن ذلك أن يؤدّي إلى تضخم، نظراً لكون المعروض من الدولار أكبر بكثير من المطلوب (قاعدة العرض والطلب)، فقد اضطر الفدرالي الأميركي إلى رفع الفائدة على السندات، بغرض تشجيع المواطن الأميركي على شرائها (يؤدّي الإقبال على شراء السندات إلى انخفاض المعروض من الدولار في أيدي الناس)، ولكن على ما يبدو، فإنّ رياح سوق المال لم تأتِ كما تشتهي سفن الفدرالي الأميركي، فقد دفعت هذه الخطوة غير المدروسة المودعين الأميركيين إلى التهافت على سحب ودائعهم من المصارف بغرض شراء سندات الخزينة.
الأمر الذي زاد من معروض الدولار في أيديهم، هذا من جهة، وأفقد بنك وادي السيليكون وشقيقيه السيولة اللازمة، من جهة ثانية. وهكذا وجدت المصارف المذكورة نفسها على شفير الإفلاس، وهو ما حدث لاحقاً بالفعل.
ـ من بين العوامل الأخرى التي أدّت إلى حدوث الأزمة الحالية هي الحرب الأوكرانية. فقد أفضت هذه الحرب إلى ارتفاع غير مسبوق بأسعار الطاقة والغذاء، انعكس سلباً على القدرة الشرائية للمواطن الأميركي والأوروبي، من جهة، وعلى الإنفاق الحكومي من جهة أخرى. وهو ما ساهم بنحو أو بآخر في رفع معدلات التضخم.
أصحاب الرأي الثاني
في المقابل، فإنّ لأصحاب الرأي الثاني أسبابهم الموجبة أيضاً، منها على سبيل المثال:
ـ أنّ الأزمة التي عصفت بالمصارف الثلاثة سببها واضح، وما دامت الأسباب واضحة فالمعالجة متاحة ويسيرة.
يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّ رفع الفائدة على السندات أدّى إلى تضخم مالي مشهود، ولكن ذلك ليس بالشيء الخطير كما يتوهّم أصحاب الرأي الأول.
كلّ ما هو مطلوب بحسب هؤلاء أن يعود الفدرالي الأميركي عن قراره القاضي برفع الفائدة، والأمور ستعود إلى طبيعتها.
ـ أن عدداً من الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي، بعدما لاحظوا تهافتاً غير مسبوق على سحب الودائع، أخذوا يحذرون الناس من مغبة ذلك، ما أثار الذعر في نفوس المودعين الأميركيين الذين سارعوا بدورهم إلى سحب ودائعهم دفعة واحدة، فحدث ما حدث.
وعليه، إذا اتخذت السلطات الأميركية قراراً بتقييد الوصول إلى تلك المنصات، أو بالحدّ الأدنى إلى الحسابات التي تساهم في دبّ الذعر، فمن الممكن أن تحدّ من آثار الأزمة، بل وتجهز عليها.
نصيحة أخيرة
ماذا بخصوص المواطنين اللبنانيين والعرب المتوجّسين من انعكاس هذه الأزمة على قيمة دولاراتهم؟
بناءً على نصائح عديدة وجهها علماء الاقتصاد في هذا الصدد، فمن الأجدى لمن يساورهم القلق حيال قيمة العملة الخضراء، أن يسارعوا إلى التخلص من المبالغ التي بحوزتهم، وذلك عبر طرق ثلاث:
ـ شراء عقارات، وذهب وهما الحلان الأمثلان بحسب الخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور عماد عكوش.
ـ استبدال العملة الخضراء بسلة من العملات الأجنبية الأخرى كاليِن واليوان واليورو.
ويكاد يجمع علماء الاقتصاد على أنّ تدهور سعر صرف العملة الخضراء، لن يحدث بين ليلة وضحاها، فالأمر قد يستغرق شهوراً وربما سنوات، ذلك أنّ العديد من دول العالم ستحاول قدر الإمكان المحافظة على سعر صرف تلك العملة، بمن فيهم أعداء وأخصام الولايات المتحدة التقليديون، نظراً للارتباط العضوي القائم بين اقتصاديات تلك الدول والعملة الخضراء.
فلو أخذنا الصين، على سبيل المثال، وهي منافس تقليدي للولايات المتحدة، لوجدنا أنّ جزءاً كبيراً من ديونها المستحقة على أميركا، هي في الأساس سندات خزينة أميركية، ما يعني أنّ أيّ تدهور في سعر صرف الدولار سينعكس سلباً على قيمة تلك السندات، وبالتالي سوف تخسر بكين جزءاً لا يُستهان به من ثروتها، وهو ما لا يمكن أن تسمح بحدوثه، على الأقلّ في الوقت المنظور.
إنّ حرص دولة بحجم الصين على استقرار سعر صرف الدولار، من شأنه أن يحافظ على قيمته مدة أطول من الزمن، وبالتالي، فإننا ننصح كلّ من يساوره القلق حيال هذا الأمر، بالتريّث قليلاً قبل الشروع في بيع ما لديه من دولارات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى