أولى

أسئلة حول التغيير في النظام السياسي والاقتصادي اللبناني؟

‭}‬ زياد حافظ*
تقدّم المنتدى الاقتصادي والاجتماعي برؤية حول التغيير في البنية الاقتصادية في لبنان كمشروع حلّ للأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي تعصف به. ومن منطلقات رؤية المنتدى في التغيير، وليس في الإصلاح لأن لا جدوى من الإصلاح الذي يحافظ على البنى الاقتصادية القائمة لكن مع تعديلات لا تغيّر في الخيارات والسياسات، فأيّ عمل في هذا الشأن يحتاج إلى بيئة سياسية تحتضنه وقرار سياسي ينفّذه. والبيئة السياسية والقرار السياسي غير موجودين لإجراء التغيير بل حتى الحدّ الأدنى من الإصلاح الذي مثّلها مشروع الإنقاذ الاقتصادي لحكومة حسّان دياب. فالشلل السياسي يعود لعدّة عوامل داخلية وخارجية مع التفاعل الواضح بينهما. والعوامل الداخلية تعود إلى بنية النظام التي ترتكز إلى نظام محاصصة طائفي الأصل ومذهبي الانتماء. فالمؤسسات الدستورية متوزّعة على الطوائف والمذاهب دون أن تكون هناك رؤية مشتركة لذلك التكوين المعقّد الذي أفرز توازنات دقيقة عبر تاريخ لبنان منذ الاستقلال في الحدّ الأدنى. ومن سمات التكوين الطائفي الانكشاف نحو الخارج حيث الخارج يجد بسهولة مكوّنات مستعدة لترويج سياساته في لبنان وفي المنطقة ويتدخّل في التوازنات لصالح المصالح الخارجية. والتفاعل بين الداخلي والخارجي يزيد من تعقيد الأمور حيث الاستقرار السياسي الداخلي مرتبط ارتباطاً عضوياً بالاستقرار الإقليمي الذي يرتبط بموازين قوّة إقليمية ودولية معروفة لا داعي للبحث فيها الآن.
والدلائل على تلك العلاقة العضوية كثيرة كالاستقرار الذي شهده لبنان في الستينيات من القرن الماضي حتى حرب حزيران 1967 حيث وجود الرئيس جمال عبد الناصر أمّن ذلك الاستقرار الإقليمي فكان دافعاً لإصلاحات أجراها الرئيس فؤاد شهاب. فبعد هزيمة 1967 دخلت المنطقة في حال لا توازن وخاصة ما انعكس في اندلاع الحرب الأهلية في لبنان التي استمرت على مدى عقد ونصف العقد. اتفاق الطائف كان برعاية إقليمية ودولية أمن حدّا من الاستقرار وإنْ كانت الخيارات المتخذة غير سليمة، ولكن منسجمة مع موازين قوّة كانت قائمة آنذاك. احتلال العراق في 2003 أدّى إلى فقدان التوازن في المنطقة فكان اغتيال الرئيس رفيق الحريري والفوضى التي دخلت فيها البلاد بعد فقدان الرعاية الإقليمية. واليوم يعيش لبنان فقدان التوازن بسبب عدم الاستقرار في سورية الناتج عن حقبة «الربيع العربي» وغياب الرعاية العربية الإقليمية بينما تراجعت أهمية الرعاية الدولية أو على الأقلّ نشهد تغييراً في هوية الرعاية الدولية من غربية إلى شرقية. لكن تداعيات هذا التغيير لم تنجلِ حتى الساعة على الأرض.
وإذا كان هناك إجماع على ضرورة التغيير وإنْ كان قسرياً فيكون إمّا في القيادات وإمّا في النظام وإمّا في الاثنين معاً. والسؤال يصبح مَن سيقوم بذلك وكيف؟ للإجابة على السؤال قد يكون التاريخ دليلاً على ما يمكن أن يحصل. أشرنا أعلاه بشكل سريع إلى أنّ الاستقرار في لبنان له شرط أساسي وهو الاستقرار ولو النسبي في المنطقة. فلا استقرار في المنطقة بوجود الكيان الصهيوني، لكن يمكن تصوّر استقرار نسبي كما حصل في الستينيات من القرن الماضي وفي حقبة الطائف حتى 2005. لذلك يمكن ان ينتج عن الانفراجات العربية والإقليمية التي نشهدها إذا استقرّت معادلات جديدة تؤمّن الاستقرار برعاية دولية لا دور للغرب فيها إلاّ بشكل هامشي. فالغرب والكيان الصهيوني مصدران للزعزعة. وهذا الاستقرار في غرب آسيا سيمتدّ إلى لبنان ما يفرض انفراجات قد تؤدّي إلى تغييرات في البنية السياسية لتواكب التحوّلات العربية والإقليمية خاصة مع عجز الكيان الصهيوني عن قدرته على مواجهة المقاومة. هذه التغييرات في لبنان ستؤدّي إلى بروز خطاب سياسي مغاير للخطاب الطائفي المذهبي. حتى الساعة لا يوجد إلاّ الخطاب العروبي الذي يجمع بين المكوّنات ويتجاوز التناقضات الموروثة من حقبة الاستعمار. كما أنه ستبرز قيادات عروبية لم تكن الفرصة المتاحة لها للبروز حتى الساعة. فهذا الخطاب العروبي والقيادات الجديدة التي سيفرزها لا يأتي من الفراغ. بل هو موجود منذ الاستقلال حتى اندلاع الحرب الأهلية. خطاب الحركة الوطنية اللبنانية كان نقيضاً لخطاب النخب الحاكمة وكاد أن يحقق نجاحات لولا تدخّل بعض الدول العربية لإجهاض تنامي ذلك التيّار.
الحركة الوطنية اللبنانية كان خطابها قومياً لكن برنامجها السياسي وأداء قياداتها كان قطرياً فخسر التفاف العروبيين ولم يربح الفئويين. لذلك المطلوب للمرحلة المقبلة بروز حركة وطنية لبنانيّة تدعمها المقاومة، ولكنها مستقلّة عنها تستطيع صوغ خطاب عروبي يتجاوز التناقضات الموروثة وخاصة إفرازات التغيير في البنية السكّانية. ونشدّد على هذه النقطة لما تُشكّل من خطورة تهدّد ديمومة الكيان. فالتغييرات في البنية السكّانية في لبنان لن تستقيم إلى ما لا نهاية مع الموازين الدقيقة لتوزيع السلطة بين مكوّنات الوطن. فسيأتي يوم لا يمكن فيه تجاهل الثقل السكّاني ومنطق الديموغرافيا على الحياة السياسية. فإذا استمرّ لبنان بالنهج والمزاج الطائفي فالانفجار آتٍ بسبب فقدان التوازن السكّاني. والمحاولات لضمّ اللبنانيين في المهجر وخاصة أولئك الذين هاجروا منذ عدّة عقود لن يستطيعوا أن يساهموا في إعادة بناء التوازن السكّاني. لقد آن الأوان لتجاوز التركيبة الطائفية المذهبية واعتماد مكانها المواطنة المدنية. الهواجس الطائفية لن تُحّلّ بالمحاصصة بل بالمواطنة والمواطنة المرتكزة إلى الهوية العروبية هي الضمان لجميع مكوّنات الوطن.
كما يجب تجاوز المعادلة الخاطئة التي كوّنت أساس الميثاق الوطني ومن بعده اتفاق الطائف عقدة الخوف وعقدة الغبن في تحديد هوية لبنان وخياراته. فالنفيان اللذان شكّلا قاعدة الميثاق لا يشّكلان قاعدة سليمة لبناء الوطن كما أوضحه الصحافي الراحل جورج نقاش. وبالتالي، فإنّ بناء الدولة كحصن للوطن لا يمكن أن يكون مبنياً على محاصصة كانت ربما مقبولة في زمن قد ولّى، بل بناء هذه الدولة يكون على قاعدة الكفاءة والالتزام بثوابت الوطن والأمة. ما نريد أن نؤكده أن رغم تجذّر «المجتمع العميق»، وهو المجتمع الطائفي، فإنّ ذلك التجذّر سطحي وإنْ كانت لذلك المجتمع مؤسّساته التي تحافظ على ديمومته! فهي وليدة الحقبة الاستعمارية الغربية وسيتراجع دورها مع تراجع النفوذ الغربي. والسطحيّة لا يمكن أن تنتج عمقاً يستطيع أن يواكب التحوّلات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم وفي الإقليم إلاّ إذا أراد توسيل نفسه، بمعنى أن يصبح مرّة أخرى وسيلة للتدخل الخارجي. فالمجتمع «العميق» لا يملك رؤية و/أو خطاباً يستطيع أن يتكيّف مع تلك التطوّرات. فهو أسير مربّع هو مسؤول عنه بمساعدة الخارج. والتاريخ يظهر دلائل مأسَسة المجتمع الطائفي مع الانتداب الفرنسيّ، حيث قبل دخوله إلى لبنان كانت بوادر الخطاب الوطني والقومي متوفرّة وتقود التوجّه السياسي للبلاد حتى في ظلّ السلطنة العثمانية الآفلة. فإذا خرج «الخارج» من اللعبة الصفرية التي تتحكّم بالمجتمع الطائفي فيصبح عندئذ ضعيفاً لأن لا مقوّمات له للبقاء في محيط إقليمي متنوّع التكوين ولكن ليست قاعدة له.
الركيزة الثانية للمجتمع الفئوي «العميق» هو الاقتصاد الريعي الذي تمّ تشجيعه في السابق من قبل الاستعمار وعلى حساب الاقتصاد الإنتاجي وفي ما بعد عبر السياسة النيوليبرالية التي أسقطت العيب عن الريع وفقاً لمقولات أحد أرباب النيوليبرالية ميلتون فريدمان. ونذكّر هنا كيف استطاع المستعمر الفرنسي «العرّاب» لمكوّن أساسي في المجتمع اللبناني أن يدمّر البنية الاقتصادية المبنية على صناعة دود القز وصناعة الحرير لصالح المعامل في فرنسا. فالاستعمار القديم والنيوليبرالية الحديثة تحتاج إلى نظام فئوي مبنيّ على التجزئة الداخلية لتسهيل السيطرة والتحكّم بالقرار السياسي والاقتصادي. والخارج ساهم في تنمية الريع عبر تشجيع الاحتكار كالوكالات الحصرية التجارية التي تساهم في خلق الريع إضافة إلى مصادر أخرى في إنتاج الريع.
كما أنّ تلازم الفئوية والاقتصاد الريعي أنجب فساداً طغى على كافة مكوّنات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. الفساد أصبح رأس المشكلة بينما حقيقة هو من منتوجات النظام الفئوي والاقتصاد الريعي. وهناك دراسات تؤكّد ذلك التلازم بين الفئوية والاقتصادي الريعي والفساد مع الانكشاف المفرط تجاه ولصالح القوى الخارجية. العراق خير دليل على ذلك حيث المحتلّ الأميركي نقل النموذج اللبناني إليه فازداد الانهيار السياسي والاقتصادي والثقافي في بلاد الرافدين.
من ضمن القضايا المطروحة حول طبيعة النظام الجديد للبنان هو التحوّل إلى نظام رئاسي بدلاً من نظام برلماني يعيق حركة السلطة التنفيذية. فطبيعة التكوين المجتمعي في لبنان ستنعكس حكماً في بنية القوى السياسية التي ستشكّل الفضاء السياسي حتى لو تمّ إلغاء الطائفية. فذلك الإلغاء للنصوص الطائفية قد يأخذ وقتاً لإلغائه من النفوس المنتمية إليها. وبالتالي يصبح مجلس النوّاب ساحة جديدة للتجاذبات والتسويات التي تعطّل مسار التغيير. لذلك نعتقد أنّ مرحلة نهوض لبنان لن تكون ضمن نظام برلماني بل ضمن نظام رئاسي الذي سيكرّس تجاوز العقدة الفئوية. قد يستبدل لبنان النظام الطائفي بالنظام الحزبي لكن إمكانية التوافق على برامج تنموية خارج الأطر الفئوية قد يكون أكثر قبولية للتحقيق. فبعد جيل من الزمن قد يتلاشى المزاج الفئوي لمصلحة رؤى سياسية و/أو اقتصادية متناقضة بل أقلّ خطراً على تماسك المجتمع اللبناني. قاعدة التعامل في النظام الطائفي هي اللعبة الصفرية حيث لا بدّ من غالب أو مغلوب. فالتسويات التوافقية لا تلغي القاعدة الصفرية بل تؤجّل الاستحقاقات الموجعة. بينما النظام الذي لا يعتمد على الطائفية ولا على الارتهان للخارج ولا على الريع الاقتصادي يسلك دائماً قاعدة رابح ـ رابح.
الاستشراف ليس جردة للتمنّيات بل للوقائع التي تتغيّر مع الزمن. معظم التحليلات تسقط الواقع الحالي على المستقبل كأنه قدر لا يمكن تغييره. وهذا غير صحيح. فالاتحاد السوفياتي انهار في جيل كان يعتقد أنه من المستحيل أن ينهار. والولايات المتحدة في تراجع قد يؤدّي إلى تهديد ديمومة ذلك الكيان. والغرب بشكل عام يحتضر رغم مظاهر القوة في السياسة والاقتصاد والثقافة بسبب سوء الخيارات والسياسات. فمن يستطيع أن يقول إنّ النظام الطائفي سرمدي غير قابل للتغيير رغم كلّ الوقائع التي تشير إلى وصوله إلى طريق مسدود وعجزه عن تجديد نفسه للتكيّف مع الواقع الجديد؟
*كاتب وباحث اقتصادي سياسي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى