أولى

عودة العرب الى سورية: تأكيد لانتصارها ومعالجة لذيول الحرب

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
في آذار 2011 اندلعت الحرب الكونية علي سورية تحت شعارات مزيفة كاذبة تسمّي الحرب «ثورة» وتنسب «الثورة المزعومة» الى ما أسمي «الربيع العربي». وظنّ دعاة الحرب تلك وهم بقيادة أميركية ومعها مدراء مسرح إقليميون من عرب ومسلمين تتقدّمهم تركيا وبعض دول لخليج وبشكل خاص قطر والسعودية، ظنّ هؤلاء المشاركون في هذه الحرب والمنفقون عليها بسخاء كلي، أنّ حربهم ستكون سريعة في تحقيق أهدافها التي يتصدّرها «إسقاط سورية من موقعها المركزي في محور المقاومة» و»تصفية هذا المحور» لفتح الطريق أمام «تصفية القضية الفلسطينية» و»التطبيع مع إسرائيل» وتوطين الفلسطينيين خارجها، مترافقاً مع تقسيم سورية على أساس عرقي وطائفي يشطب سورية الواحدة القوية من خريطة الشرق الأوسط ويقيم مكانها دويلات واهنة تابعة لهذه الجهة أو تلك إقليمياً او دولياً.
بيد انّ سورية التي أدركت ضخامة العدوان من أيامه الأولى، وضعت خطط الدفاع عن نفسها وعن فلسطين وعن العرب برمّتهم وأبدت من الحكمة والشجاعة والمرونة في التعامل مع الأخطار مع جعل المعتدين يخسرون أول رهاناتهم ويحرمهم من تحقيق «السقوط السريع» لسورية، هذا السقوط الذي حدّدوا له مهلة لا تتجاوز الـ ستة أشهر، يحدوهم في ذلك ما فعلوه في ليبيا من إسقاط نظام معمر القذافي في مهلة لم تتجاوز الـ ستة أشهر أيضاً، وكان ردّ المعتدين على سورية قراراً في جامعة الدول العربية اتخذ بتاريخ 12/11/2011 بإملاء أميركي وخلافاً لميثاق الجامعة العربية الذي يفرض التوافق والإجماع في قراراتها، (لقي القرار معارضة ٣ دول عربية)، وجاء متضمّناً تعليق مشاركة سورية في أعمال الجامعة العربية وتجميد مقعدها فيها من أجل تحقيق عزلتها ومحاصرتها سياسياً وميدانياً لتسهيل تحقيق أهداف العدوان كما ذكرنا أعلاه.
اعتبرت سورية أنّ قرار تجميد مقعدها في الجامعة وخروج العرب منها ثم محاصرتها وفرض العزلة الخانقة عليها هو وجه من وجوه الحرب عليها، وكانت تدرك أنّ هذا القرار والتدبير انما هو قرار مؤقت سيسقط او يتمّ التراجع عنه في حال من اثنين، إما بلوغ الحرب عليها أهدافها وعند ذلك تعود الى الجامعة الدولة او الدول التي تنشأ مكان سورية العربية الواحدة ـ قلب العروبة النابض على ما سمّاها الرئيس جمال عبد الناصر ـ او انتصار سورية في الدفاع عن نفسها وسقوط المشروع والعدوان وفشل الحرب الكونية التي استهدفتها، فشلاً يكون من طبيعة تمنع او تحول دون استمرار العدوان.
ودارت الحرب متقلبة في صور وصيغ متلاحقة ومستندة الى خطط واستراتيجيات متنقلة في المسؤولية الميدانية عن إدارتها من يد الى يد بدءاً بتركيا ثم السعودية ثم داعش ثم ما أسمي التحالف الدولي بقيادة أميركية. وفي المقابل صمدت سورية واستعملت ما لديها من قدرات ذاتية متعدّدة العناوين، ثم بدأ حلفاؤها بالدخول في الميدان تباعاً بناء لطلبها ووفقاً للحاجة والضرورة، فكان دخول حزب الله ثم إيران ثم روسيا، مشكلين التكتل العسكري الميداني المركب الذي يقدّم ما لديه من أجل دعم وإسناد الجيش العربي السوري في الدفاع عن سورية ضد عدو تمظهر في النهاية بصيغة مجموعات وفصائل مسلحة صنفت في معظمها بأنها كيانات إرهابية.
أنتجت الحرب ـ العدوان على سورية مآسي وويلات لحقت بسورية وشعبها قتلاً وتشريداً وتهجيراً وتدميراً، بحيث نزح عن بيوتهم الى داخل سورية أو الى خارجها أكثر من نصف الشعب السوري ودمّرت المدن والأماكن الآهلة بنسب كبيرة وعطلت او شلّت القطاعات الاقتصادية، وشدّد الحصار الخارجي الإجرامي على سورية وتشدّدت أميركا وأوروبا في تطبيق ما أسموه زوراً «عقوبات» ضد سورية، لكن سورية واجهت كلّ ذلك بوعي وصلابة وحسن تدبير واستطاعت في نهاية المطاف أن تحفظ نفسها وكيانها ووحدتها وموقعها في وجه العدوان الذي فشل في تحقيق أيّ من أهدافه الاستراتيجية وإنْ كان نجاحه واضحاً في ارتكاب الجرائم الوحشية بحق البشر والشجر والحجر، أما سورية الدولة والكيان والوظيفة والدور والعلاقة الاستراتيجية بالمقاومة ومكوناتها وقضية فلسطين، كلها أمور لم تمسّ.
واليوم وبعد هذا النجاح السوري المقاوم تصدر الجامعة العربية بتاريخ 7/5/2023 القرار رقم8914 في دورة غير عادية على مستوى وزراء الخارجية. قرار بفك الحصار العربي عن سورية وتمكينها من شغل مقعدها في الجامعة العربية ويعيد العرب الى سورية المنتصرة والثابتة على مواقفها طيلة 12 عاماً. قرار له أبعاد استراتيجية هامة وله معان ودلالات عميقة، قرار أملته نتائج المواجهة في الميدان السوري أولاً ثم التحوّلات الإقليمية والمتغيّرات الدولية التي تدفع العالم برمّته نحو إرساء نظام عالمي تعدّدي يدفن الى غير رجعة وبشكل نهائي الحلم الأميركي بإقامة نظام عالمي أحادي بقيادة أميركا. حلم أصبح التمسك به جنوناً يفاقم خسائر أصحابه.
فقرار عودة سورية لممارسة عضويتها في الجامعة العربية مع كامل الحقوق التي توليها هذه العضوية لم يكن صحوة ضمير عربية بل كان نتيجة متغيّرات وتحوّلات محلية وإقليمية ودولية تبدأ بفشل العدوان على سورية وتتمدّد الى ما حصل في الشرق الأوسط وأطرافه خلال السنوات الأخيرة وفي طليعته الخروج الفوضوي للقوات الأميركية من أفغانستان، ثم فشل أميركا في أوكرانيا وتملص روسيا من حرب الاستنزاف التي استدرجت اليها وتحوّل المواجهة الى استنزاف للغرب الأوروبي بشكل عام، ثم كانت الضربة الصاعقة التي تمثلت بصلح بكين بين السعودية وإيران ذاك الصلح الذي دفن حلماً غربياً بحرب بين الشيعة والسنة وبين العرب والفرس.
لقد اتخذ العرب الذين انصاعوا قبل 12 سنة للقرار الأميركي بعزل سورية، اتخذوا قرار العودة الى سورية خلافاً للإرادة الأميركية التي لا تزال تكابر وتعتمد “استراتيجية إطالة أمد الصراع في سورية” وتعرقل كلّ ما من شأنه إعادة سورية والسوريين الى حياتهم الطبيعية، اتخذ القرار لأنّ فيه مصلحة للعرب قبل أن يكون فيه مصلحة لسورية خاصة أنّ سورية خرجت من دائرة الخطر الوجودي الذي هدّد يوماً وحدتها وموقعها ودورها الاستراتيجي، وانتصرت في الحرب التي استهدفتها ودخلت الآن في مرحلة “تصفية أو معالجة آثار العدوان عليها”، هذه المرحلة التي تتضمّن بشكل أساسي معالجة أربعة ملفات أساسية هي ملف استئصال الإرهاب والاحتلال عما تبقى في أرضها، ملف إعادة النازحين، ملف إعادة البناء، الملف السياسي والمصالحة الوطنية.
وللعرب في هذه الملفات مصلحة مباشرة خاصة لدول جوار سورية (العراق والأردن ولبنان) وللدول العربية الكبرى الأخرى (السعودية ومصر)، فالعرب عامة وهذه الدول الخمس خاصة معنيون بمعالجة النزوح السوري والاستثمار في إعادة البناء كما أنهم معنيون بحسن العلاقة مع سورية التي باتت مع انتصارها مكوّناً أساسيّاً في كتلة استراتيجية تضمّها الى إيران وكيانات المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين، كتلة لها موقعها أو تفرض نفسها في نظام عالمي تعدّدي قيد التشكل وتقيم أفضل العلاقات مع اثنين من أهمّ أقطاب هذا النظام (الصين وروسيا). ولأجل ذلك شكلت لجنة عربية من الدول الخمس أعلاه للاتصال بسورية لمواكبة تصفية آثار العدوان.
في الخلاصة فإنّ عودة العرب الى سورية انما هو قرار اتخذ نتيجة انتصارها ومتغيّرات دولية لم تكن في صالح المعتدين عليها، قرار يؤكد انّ الحرب على سورية انتهت وانّ سورية انتصرت ودخلت في مرحلة تصفية آثار العدوان، وانّ اميركا لم يعد بمقدورها منع العرب من تحقيق المصالحة البينية وإحياء العمل العربي المشترك رغم أنها ستحاول السعي لمنعه او للعرقلة، وانّ العرب يبدون استعداداً لا بأس به للانخراط في إعادة إعمار سورية مع إعادة النازحين السوريين إليها، أما القول بأنّ القرار مشروط أو هي عودة مشروطة فإنه برأينا فذلكة دبلوماسية من أجل حفظ ماء وجه من كان أداة تنفيذية بيد أميركا لاتخاذ قرار التجميد ويرى صعباً عليه الإقرار بالخطأ والفشل والهزيمة.
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى