أولى

غزة على خط النار…

‭}‬ سعادة مصطفى أرشيد*
في الأيام التي سبقت المواجهة الأخيرة في غزة، شهدنا انفراجاً لافتاً في المنطقة ترافق مع أخبار جيدة في مقياسنا، ولكنها بطبيعة الحال كانت على العكس في حسابات واشنطن وتل أبيب، فقد زار الرئيس الإيراني دمشق وفي زيارته معاني لا تُخفى على أحد برمزيتها وبنتائجها على شتى الصعد بما فيها ما استشعره الجميع عن قرار المحور بوحدة الساحات. ثم زار الرياض مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان لمتابعة سياسات رئيسه بايدن، التي وصفها بأنها قائمة على دبلوماسية الردع، وذلك لبحث ملفات المنطقة مع ولي العهد السعودي من السودان إلى اليمن وإيران وسورية، ولكن كان على رأس أولوياته الدبلوماسية الردعية إحياء التفاهمات الأميركية السعودية الإسرائيلية السابقة بشأن التطبيع السعودي (الإسرائيلي) ولوضع الأشواك في طريق المصالحة الإيرانية السعودية التي رعتها الصين، وكان واضحاً فشل جهوده ودبلوماسيته الرادعة مع ولي العهد الذي يزداد قوة كلما ابتعد عن واشنطن، هذا فيما اتخذ مجلس جامعة الدول العربية قراراً بعودة سورية إلى الجامعة في خطوة اعتذارية، وقد نرى الرئيس السوري قريباً في الرياض مشاركاً في القمة العربية بعد أن تلقى دعوة رسمية من الملك سلمان حملها له وزير الخارجية السعودي.
تحتاج غزة ولا ريب لمصر وثمّة ضرورة لأن تحافظ على علاقاتها معها، فمصر الرئة التي تتنفس منها غزة بسبب دكتاتورية الجغرافيا وضروراتها، ولكن مصر أيضا التي يتآكل دورها – لشديد الأسف في السودان وجنوبه ودارفور كما في ليبيا ومنابع النيل الأزرق الأثيوبية، تحتاج بدورها إلى غزة، لا بل قد لا يكون لديها اليوم غير هذه الورقة التي تستطيع الإمساك ببعضها بما يسمح لها بتسويق دورها وإن نافستها على هذا الدور (بغاث الطير) من دول هامشيّة وثانوية كقطر وحقيبة سفيرها الشهرية.
فجر الثلاثاء كان قادة الجهاد الإسلامي في غزة يشعرون بالأمان ويقومون بتوديع عائلاتهم ويوضبون حقائبهم استعداداً للسفر إلى مصر تلبية لدعوة مصرية لبحث شؤون التهدئة وشروطها، ويفترض العقل السليم والبسيط أن المصريين قد نسقوا الأمر مع تل أبيب وأخذوا منها الضمانات حول سلامة الوفد، ولكن موفدي وقادة الجهاد وبعض أطفالهم غادروا القطاع إلى الحياة الأخرى شهداء بدل أن يغادروا إلى مصر مفاوضين، وهي حالة غير مفاجئة، فلم يكن (الإسرائيليون) في يوم من الأيام يلتزمون بتعهداتهم، ولم يكن المصريون قبل ذلك قادرين على إلزام (الإسرائيليين) بتعهداتهم أو على معاقبتهم على خرقها، أما مؤمنو غزة فلديهم الاستعداد الدائم لأن يُلدَغوا من الجحر ذاته المرة تلو المرة.
كما في كل مرة فإن (الإسرائيلي) وبعد جريمته عاود الاتصال بالمصريين، طالباً منهم السعي للتهدئة مقابل وعود لا تنفذ ثم لإيصال رسالة إلى قيادة حركة حماس في غزة تقول لهم فيها إنهم ليسوا بمستهدفين وإن الاستهداف هو لحركة الجهاد الإسلامي فقط، وحين نشرت تصريحات منسوبة لأحد وزراء حكومة نتنياهو يتهدّد بها قيادة حماس، اضطر نتنياهو لردعه وإسكاته. فالطريقة (الإسرائيلية) القديمة لا زالت تتبع بالاستفراد بالمجموع القومي أو الوطني كل فريق على حدة.
في صيف 2020 كان (الإسرائيلي) يبحث عن اشتباك محدود لاعتبارات سياسية داخلية، فتمّ نشر بيان وخبر سرعان ما تمّ تداوله بسرعه مفاده أن اشتباكاً حصل بين المقاومة اللبنانية والجيش (الإسرائيلي) في مزارع شبعا وأن المقاومة قد أطلقت صاروخاً من نوع كورنيت على دبابة (إسرائيلية) من نوع ميركافاه، وأخذت سحب الحرب تملأ السماء، ولكن المقاومة اللبنانية ردّت ببيان مقتضب نزع كل صواعق التفجير إذ أكدت أن لا شيء مما ذكر قد حصل جملة وتفصيلاً، ولكنها جاهزة للرد المزدوج على أي اعتداء (إسرائيلي والصاع بصاعين). فاضطرت (إسرائيل) لابتلاع بيانها الأول، فيما قال الشيخ نصر الله إن المقاومة تعرف تماماً الهدف الإسرائيلي وإنها ستجعل من الإسرائيليين يقفون على (رجل ونص).
هل يقف الإسرائيلي اليوم أيضاً على (رجل ونص)؟ تفيد أخبارهم أن أكثر من 7000 مستوطن يهودي يعيشون في جدار غزة قد غادروا بيوتهم (التي اغتصبوها) إلى أماكن بعيده وحتى في حال حصلت التهدئة، وفق ما تريد حكومة الاحتلال فإن بعضهم فقط من سيعود إلى هناك، فيما يؤثر من تبقى منهم السلامة بالبقاء بعيداً عن غزة وصواريخها، هذا فيما قامت بلدية تل أبيب بفتح قرابة الثلاثمئة ملجأ تحسباً للمقبل، الذي أصبحت الحكومة الإسرائيلية تستعجله، فتأخُّر الرد قد جعلها واقفة على (رجل ونصف)، فيما مطاراتها بعضها مغلق وبعضها يكاد يعمل وكذلك كثير من مشاريعها ومزارعها وسياحتها الوافدة.
عصر أمس الأربعاء توالت الردود من كل المقاومة، لا من حركة الجهاد الاسلامي فحسب، لتطال تل أبيب وجوارها وبيت شيمش قرب القدس، ليدخل ثلثا الكيان اليهودي إلى الملاجئ، ولا تزال الأمور في بداياتها، ومن الصعب قراءة نهاياتها، لكن لعل حالة الهدوء التي شابت المقاومة في البداية قد عبرت عن رؤيا أكثر مما عبرت عن عجز أو خوف، فهل سنرى مفاعيل نشطة من خارج فلسطين نصرة لمقاومتها؟ ربما، وربما أن المقاومة في هذه الجولة لن تحتاج إلى مثل ذلك الإسناد، الذي بدأ سيبرانياً في تعطيل القبة الحديدية وقطع الكهرباء والاتصالات الهاتفية عن وسط وجنوب فلسطيننا المحتلة.
في غمرة هذه الأوضاع المعقدة والتي تشغل بال الجميع في فلسطين والإقليم من حكومات وأحزاب ومنظمات وسفارات وأفراد، تغيب رام الله عن المشهد، وكأنها ليست طرفاً في الاشتباك، إذ تكتفي بأشغالها اليومية في الضفة وشيء من الاتصالات الدبلوماسية، مانحة خصومها مادة إضافيّة لانتقادها، وتتخلى عن دورها تاركة الميدان واسعاً ومفتوحاً للمقاومة بفصائلها الرئيسة وتفرعاتها الصغيرة جاعلة منهم اللاعب الرئيسي.
* سياسي فلسطيني
مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى