أولى

«ثأر الأحرار» وانكسار الإعصار

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
حساب نتائج أية مواجهة ميدانية ليس مسرحاً مفتوحاً للرغبات والأمنيات والدعاية أو البروباغندا «الغوبلزية» التي سرعان ما تتداعى فقاعاتها الصابونية وتتلاشى آثارها المأمولة، إن لم تتحوّل إلى نتائج سلبية على عكس ما يشتهي مدمنو تسويق الانتصارات الوهميّة، ولا هي حبلاً متروكاً على غاربه للبائسين المحبطين اليائسين الميئّسين. فالنتائج مرهونة دوماً بما يترتب عليها، وحسابها العلمي الموضوعي يبلوره تأرجح كفتي التكلفة والمردودية في الميزان، وقد يكون رصد ما يظهر في إعلام العدو من تصريحات أو تحليلات ومواقف وسلوكيات أدوات مساعدة لمعرفة الأمور على حقيقتها، لا بالصورة التي يحرص فيها كلّ طرف على إظهارها وتسويقها. ولا شك في أنّ الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي يوفر على المهتمّين الكثير من العناء. ومن يتابع ما ينشر في الإعلام الإسرائيلي يتأكد أنّ ما حققته عملية «ثأر الأحرار» أكبر بكثير مما يتمّ تداوله في جميع وسائل الإعلام، وبقراءة متأنية وتحليلية بسيطة لا مركبة تتضح حقيقة الاهتزاز ـ بل الارتجاج ـ العنيف الذي لم يستقرّ بعد في داخل الكيان الإسرائيلي بفضل عملية «ثأر الأحرار» التي أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي في مواجهة ما أسمته تل أبيب عملية «السهم والدرع» فلا السهم استطاع خرق إرادة المقاومين، ولا الدرع وقى كيان الاحتلال من صواريخ المقاومة التي شلَّت عجلة الحياة اليومية بعد أن وصلت إلى القدس وتل أبيب، وألزمت مليوني مستوطن على البقاء في الملاجئ أو بالقرب من الأماكن المحصّنة، وقد نقل الإعلام المعادي ما قاله أفيغدور ليبرمان وزير الحرب السابق الذي زار عسقلان وغلاف غزة قبل يوم من وقف إطلاق النار والتقى بالمستوطنين هناك، موضحاً أنّ رسالتهم تتضمّن «أنهم ملوا (قرفوا) العيش بين جولة قتال وأخرى وبين صافرة إنذار وأخرى، وبالتأكيد نحن نقترب من الجولة المقبلة».
عندما يصدر مثل هذا الكلام عن شخصية بوزن وزير الحرب السابق في كيان العدو، فهذا يعني اعترافاً صريحاً بفشل الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية لعملية «السهم والدرع»، وفي الوقت نفسه يعني ازدياد تآكل الردع الإسرائيلي الذي كان فاعلاً في الخوالي من الأيام، أيّ انحسار النوعي على حساب الكمي غير القابل للصرف والاستثمار به، فبغضّ النظر عن تحوّل الكيان الغاصب إلى ترسانة من أحدث أسلحة الفتك والقتل والدمار، إلا أنها عاجزة عن تأمين الأمن والاستقرار في أية بلدة، بما في ذلك تل أبيب، كما أنّ كلام ليبرمان المعروف بعدوانيته ويمينيته المتطرفة يؤكد أنّ قدرات المقاومة في تصاعد وتركين وتوسع وانتشار أكثر فأكثر عمودياً وأفقياً، ولكي لا يبقى الكلام بإطار عام أتوقف عند مجموعة من العناوين والنقاط المهمة، على الصعيدين العسكري والمجتمعي، وأترك للقارئ أو المتابع أن يطلق بنفسه الحكم الذي يراه مناسباً، ومنها:
ـ تحديد تحرّك هذا القيادي المقاوم أو ذاك في مساحة جغرافية محدودة ليس إعجازاً ولا عملاً خارقاً قام به الإسرائيلي المتخم بالأقمار الصناعية وأجهزة الرصد والتنصت والتجسّس والتعقب والمتابعة والتقنية القادرة على معرفة أرقام لوحات السيارة المتحركة في الشارع، بل الإعجاز في القدرة على التخفي والتفلت من متابعة كل ما ذكر طيلة الفترات السابقة.
ـ يتباهى الكيان الغاصب بأنّ لديه من الأسلحة الفتاكة والقوات الاختصاصية ما يجعله يحتلّ مركزاً متقدّماً في ترتيب الجيوش وقدرتها على المستوى العالمي، والسؤال المشروع هنا هو: أين البطولة في استهداف المنازل المدنية وقصفها بأكثر الصواريخ والقنابل طاقة تدميرية؟ وهل قتل الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير المنازل الآمنة إنجاز يمكن التباهي به، أم جريمة لا يمكن تبريرها بذريعة استهداف قادة في المقاومة؟
ـ هل استشهاد القادة الذين ارتقوا عطّل قدرة الجهاد الإسلامي على الفعل والمواجهة، أم أدّى إلى نتيجة عكسية، على الرغم من هول المصيبة وفداحة الخسارة؟
ـ إذا كانت الأمور تُقَيَّمُ بخواتيمها، فالمعارك والحروب تقيَّم بمدى تحقيق الأهداف الموضوعة لها: المعلنة منها والمخفيّة، وقد أوضح سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير أهمّ الدوافع التي استند إليها (النتن ياهو) للإقدام على جريمته النكراء لتحقيق ما فشل في بلوغه، ومن تلك الدوافع:
1 ـ استعادة الردع وترميمه.
2 ـ الهروب من المأزق الداخلي.
3 ـ معالجة التفكك في ائتلافه الحكومي.
4 ـ تحسين وضعه السياسي والانتخابي.
كلّ عنوان من العناوين المذكورة يستحق أن تُفرَد له دراسة تحليلية مستقلة، لكن باختصار شديد يمكن تسليط الضوء على بعض الجوانب المهمة، وفق ما يلي:
ـ عندما نقول: «استعادة الردع» فهذا يعني أنّ الردع كان موجوداً، لكنه فُقِدَ، أو ضاع، أيّ لم يعُد ممكناً، والسؤال لماذا فقدت تل أبيب قدرتها الردعية؟ وكيف؟ من المؤكد أنّ هناك طرفاً بعينه عمل على تقويض الردع الذي كان يتغنّى به حكام الكيان، وهم على يقين أنّ من أفقدهم الردع هو محور المقاومة بكليته، والمقاومة الفلسطينية جزء أساسيّ ومركّب ضمنه. وهذا الكلام يعني تسليم الكيان بخسارته في الجولات السابقة، وسعيه الحثيث، وتكرار محاولاته للتعويض، ولكن هيهات هيهات، فكيف له بلوغ ذلك ومحور المقاومة يراكم عوامل قوّته الكمية والنوعية، وكيان الاحتلال في تراجع متتالٍ ومتزايد بآنٍ معاً؟
ـ في ظلّ العجز عن استعادة الردع تظهر أهمية ترميم ما تبقى، وبخاصة في ظلّ الترسانة الهائلة من أسلحة الدمار والقتل والتدمير والإبادة التي يمتلكها كيان الاحتلال، وفي ظلّ وجود قوى مهيمنة إقليمياً ودولياً تبارك عدوانية حكام تل أبيب، لكن حتى الترميم ظهر أنه بعيد المنال، وما تدخل الولايات المتحدة الأميركية للإسراع بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار إلا الدليل الأبلغ على صحة ما نقوله. وهذا ما أشارت إليه المتحدثة باسم البيت الأبيض «كارين جاربيار» في بيان أكد أنّ «المسؤولين الأميركيين عملوا عن كثب مع الشركاء الإقليميين للتوصل إلى وقف الأعمال القتالية». والسؤال الذي أترك تقدير الإجابة عليه للسادة القراء هو: لو كان سير الأعمال القتالية لصالح تل أبيب هل كان المسؤولون الأميركيون يهتمّون بالتوصل لوقف إطلاق النار، أم العكس؟
ـ إمكانية استعادة الردع تحتاج لركائز وروافع، ومنها إمكانية الاستفراد بالجهاد الإسلامي أو بأيّ فصيل فلسطيني مقاوم آخر، وقد أخفقت كلّ حسابات نتنياهو التي انطلقت من تصوّر كهذا ثبت أنه محض وهم، وأنه لا يمكن تحييد باقي الفصائل الفلسطينية، ولا يمكن إحداث الفتنة في بيئة المقاومة، فجميع البيانات كانت تصدر من غرفة العمليات المشتركة، وهذا ما قطع الطريق على (النتنياهو) وحرمه إمكانية الاقتراب من بلوغ ما يتمناه.
ـ قد تكون حكومة نتنياهو نجحت جزئياً في تخفيف سرعة التفكك بشكل آني، لكن مخرجات جولة «ثأر الأحرار» تتبلور على أرض الواقع المعاش، وبالتالي الإبطاء في سرعة التفكك الحكومي في الأيام القتالية للمعركة ستعقبه قريباً زيادة في وتيرته وسرعته، والنتيجة الحتمية لمقدمات كهذه هي الفشل الذريع لنتنياهو في تحسين وضعه السياسي والانتخابي، أيّ أنّ التفكير بتصدير أزمة الداخل المتشظّي والمأزوم محكوم عليها سلفاً بمزيد من الخسائر وتآكل عوامل القوة الشاملة التي كان يتغنّى بها حكام تل أبيب ضاربين عرض الحائط بكلّ ما له علاقة بالقانون الدولي والأخلاق والقيم الإنسانية، وهم مطمئنون إلى أنّ عصا واشنطن والغرب الأطلسي كفيلة بضمان استمرارية قدرتهم الردعية.
اليوم الصورة تبدّلت فعصا اليانكي الأميركي تعاني من عوامل اهتراء وتآكل ذاتي وموضوعي. والقبضة الأميركية تراخت، ولم يعد بإمكان شاغل البيت الأبيض ومن حوله الإمساك بقوة بتلك العصا ولا التلويح بها.. العالم بكليته يموج على تبدّلات جوهرية وإعادة تموضع بعيداً عن الأحادية القطبية، ومن حق محور المقاومة بجميع أطرافه أن يطالب بالمكانة التي يستحقها في أيّ نظام عالمي قد يتشكل، لأنّ محور المقاومة كان صاحب الفضل الأول والدور الذي لا يُستهان به ولا يمكن نكرانه في مواجهة عربدة من تفرّد بالقرار الدولي على امتداد عقود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*لواء متقاعد، باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية.
البريد الإلكتروني:
[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى