مقالات وآراء

أوروبا وتداعيات الحرب في غزة

‬ د. حسن مرهج*

انطلاقاً من منظومته السياسية والاقتصادية، لعب الاتحاد الأوروبي خلال العقود الماضية دوراً كبيراً في مجمل الأزمات الإقليمية والدولية، وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي في هذه الأدوار، على قدرته السياسية وقوته الاقتصادية، لكن خلال السنوات الماضية، طفت إلى السطح جملة من الخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي، تعلقت بمشكلة اللاجئين أولاً، وتالياً الرغبات الأميركية بفرض صراعها مع الصين على الدول الأوروبية، ولاحقاً الحرب الروسية الأوكرانية والتي أحدثت انقسامات عديدة بين دول الاتحاد الأوروبي، لتأتي بعد ذلك الحرب في غزة، والتي أحدثت صدعاً واضحاً بين دول الاتحاد الأوروبي ما بين داعم ورافض للسياسات الإسرائيلية في فلسطين، فضلاً عن الضغوط التي مورست شعبياً ضدّ حكومات الدول الأوروبية.
النقطة الأبرز والتي أحدثت تحوّلات عميقة في المنظومة الأوروبية، كانت الحرب على غزة، ورغم أنّ العديد من الدول الأوروبية دعمت «إسرائيل» تحت تأثير الضغوط الأميركية والبريطانية، لكن استمرار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، وضعت الدول الأوروبية والتي ترفع شعار حقوق الإنسان في موقف محرج، وأدركوا متأخرين أنّ واشنطن ولندن استثمرت الموقف الأوروبي في تلك الحرب، الأمر الذي لم يتمكن من خلاله الزعماء الأوروبيون من اتخاذ موقف واحد بشأن الحرب في غزة أو التوصل إلى صيغة واحدة بشأنها.
ما يظهر جلياً في الاتحاد الأوروبي هو كسر قاعدة الإجماع بشأن «إسرائيل»، فقد ظهر الخلاف في وجهات النظر، إذ أدانت بعض الدول السياسات «الإسرائيلية» وأيدتها أخرى، فيما فضلت دول أخرى الحفاظ على مواقفها المتوازنة من الحرب، لكن جوهر الانقسامات في المواقف، جاء مدعوماً بالاحتجاجات الشعبية، خاصة مع اتساع مروحة التوترات في الشرق الأوسط والخوف من وصولها لدول الاتحاد الأوروبي.
تصعيد السياسات الإسرائيلية في فلسطين أجّج احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء أوروبا، ونتيجة لذلك، فقد توسعت الهوة بين الرأي العام في أوروبا والحكومات الأوروبية. ولذلك كان لا بدّ من قيام السلطات الأوروبية بدبلوماسية جديدة وتغيير مواقفها بشأن ما يحدث في غزة من أجل إرضاء الرأي العام الذي تحتاجه في الانتخابات المقبلة، وكانت فرنسا رائدة في هذا الاتجاه أكثر من غيرها.
الأمر الآخر والذي كان بمثابة الصدمة لدول الاتحاد الأوروبي، جاء عبر الموقف اليمني – الحوثيين، والمعادلة التي فُرضت في البحر الأحمر، حيث ومع امتداد الحرب في غزة إلى البحر الأحمر وتهديد أمن الملاحة الدولية، بات الأوروبيون بحاجة ماسة إلى إنهاء الحرب في غزة، وإنقاذ الاقتصاد الأوروبي جراء السياسات الأميركية والإسرائيلية على السواء، فالشعب الأوروبي لا يحتمل تأثيرات اقتصادية طويلة الأمد، ودول الاتحاد الأوروبي قد تسقط في موجة احتجاجات شعبية ناقمة على تلك السياسات، الأمر الذي بات إلى معالجات واضحة من قبل الدول الأوروبية، انقاذاً لسياستها وترميماً لاقتصادها الذي يعاني أصلاً جراء السياسات الأميركية.
الشعوب الأوروبية والهوية المستقلة.
واقع الحال يؤكد بأنّ إحدى أهمّ النقاط والتي كان لها تأثير في تغيير وجهة نظر الأوروبيين بشأن حرب غزة، هو التزام الاتحاد الأوروبي الذي لا جدال فيه بسياسات واشنطن العالمية، الأمر الذي كان عاملاً مؤثراً في احتجاجات الأوروبيين ضدّ تلك السياسات، ومحاولة طمس الهوية الأوروبية ضمن الهوية والسياسات الأميركية، وربطاً بذلك فإنّ دول الاتحاد الأوروبي تحاول فك ارتباطها بالمنظومة الأميركية، والأوروبيون يسعون إلى تحسين مكانتهم العالمية، الأمر الذي ترجمته فرنسا لجهة انتهاجها سياسة متوازنة ومستقلة عن باقي الأوروبيين بالابتعاد عن صراعات البحر الأحمر وعدم الدخول فيها، وتركت اللعبة الخطيرة بين أميركا وإنجلترا.
ضمن ما سبق يبدو جلياً نفوذ الاتحاد الأوروبي كمنظومة سياسية واقتصادية قد تراجعت بشكل ملحوظ، فالأزمات العالمية وتغيّر المعطيات الاقتصادية، أثرت بشكل كبير على وحدة قرارات السياسة الخارجية للقارة العجوز، وقد تجلى واضحاً هذا التغيير في حرب غزة الأخيرة، إذ لم يتمكن أعضاء الاتحاد الأوروبي من اتخاذ موقف موحد تجاه هذه الأزمة، فانضمّ البعض إلى دعم الفلسطينيين والبعض انضم إلى صفوف الداعمين للسياسات الإسرائيلية، وتغلبت سياسة الأحادية على الوحدة الأوروبية، وهذا الاتحاد والتي يمكن أن تلعب دوراً وسيطاً في الصراع الفلسطيني المهمّش عملياً.
ختاماً فإنّ دول الاتحاد الأوروبي تمر بمرحلة صعبة ومعقدة، نتيجة لسببين، الأول أن السياسات الأميركية صادرت القرار السياسي والاقتصادي وحتى العسكري لدول الاتحاد الأوروبي، والثاني أن أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا قد دخلت وبقوة في دائرة صنع القرار الأوروبي، وعليه فإنه ثمة انعكاسات واضحة ستؤدي إلى إضعاف قيمة الاتحاد الأوروبي، والعملة الموحدة، ولا تمتلك أوروبا أوراقاً قوية للتأثير بشكل مباشر على التطورات الدولية، لأنّ فعالية الكتلة الأوروبية في التعامل مع أزمات شرق البحر الأبيض المتوسط، والأزمة الأوكرانية، والصراع الفلسطيني، كلاعب مهمّ، اختفت نتيجة لكلّ ما سبق…

*خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية

مقالات ذات صلة