أولى

سليم الحص المفكر الألمعي والحاكم القدوة

يمكن أن يُقال الكثير في خصال الرئيس الراحل سليم الحص، وهو شخصية نادرة جمعت العلم والأخلاق ونزاهة الموقف وشجاعة الموقف فكانت مثالاً على معادلة سلاح الموقف، لكن ثمة ما يجب وضعه في التداول كواجب بعيداً عن تكريم الراحل، بل كزاد يحتاجه كل من يعمل بصدق في الشأن العام.
الحاكم القدوة صفة يستحقها الرئيس الحص بجدارة، فهو المتميّز بقدرة استثنائية يصعب على سواه مجاراته بها، هي القدرة على إقامة حد فاصل بين شخصه وعلاقاته الشخصية من جهة، ومسؤوليته في الشأن العام، وخصوصاً في ممارسة الحكم، ومن حكم معه أو تعرّف عليه ورافقه حاكماً أو تسنّى له أن يراقب أداءه يسهل عليه اكتشاف أنه لم يتنازل عن بند من صلاحياته لرئيس جمهورية ووزير صديق، ولم يحاول التعدّي على صلاحيات رئيس أو وزير مخالف أو خصم، ولم يتبدل في رسم الخط الفاصل الذي نص عليه الدستور في توزيع وتحديد الصلاحيات، عندما تبدّلت علاقته مع الرئيس ذاته أو الوزير ذاته، فإن كان ثمة من جسّد مواد الدستور في سلوكه اليومي فهو سليم الحص دون منازع.
هذا الحد الفاصل بين الشخص والمنصب كان عاماً وليس محصوراً في الصلاحيات، فهو خصوصاً يطال الشؤون المالية، وكثيرون سمعوا من الرئيس نفسه كيف قدّم الطائرة الخاصة التي أهداه إياها الرئيس الشهيد رفيق الحريري للدولة اللبنانية، وكثيرون يعلمون كم كان دقيقاً في فصل مصروفاته الشخصية حتى على الطعام والسفر وبين الذمة المالية للدولة، وكثيرون يستطيعون رواية حكايات عن إحباطهم من مراجعة الرئيس الحص توسّطاً لطلب وظيفة من خارج القواعد التي تنص عليها القوانين لقريب أو صديق، وان سقف ما كانوا يسمعونه من الرئيس الحص هو دعوتهم ليتقدّم المعني وفق الأصول، وبين الذين مرّوا على مناصب عالية في الدولة قد يكون الرئيس الحص من قلة إن لم يكن وحيداً لم يوقع عقداً لقريب أو صديق، ولم يصرف عقد نفقة لحساب القرب السياسي أو يحجبه بسبب خلاف، بل إذا تحدثنا عن نظام المحاصصة فإن أسباب عدم رغبة الكثيرين من أصحاب القرار بالتعاون مع الرئيس الحص، تختصر بقولهم إنه متعب، وهو وصف يقوله عنه في هذا الشأن الأصدقاء والخصوم على السواء.
عن سليم الحص المفكر الألمعي، اذكر مقولتين تنمّان عن ذكاء وثقافة وعمق فكر، سمعتهما من الرئيس الحص في حوارات جرت في مناسبات متعددة بعضها كان للنشر وبعضها كان في سياق التداول، أولى هاتين المقولتين هي أن لبنان كان بسبب ضعفه يقف دائماً على طرف التلقي السلبي لعائدات أزمات المنطقة وتسوياتها، التي يمثل الصراع العربي الإسرائيلي محور ارتكازها، وأن لبنان القوي وحده يمكن أن ينتقل الى التمتّع بالمناعة اللازمة في زمن الأزمات وإلى الوقوف على طرف التلقي الإيجابي لحلول المنطقة وتسوياتها.
ثانية هاتين المقولتين معادلة كان يرسمها في مقاربة الأزمات المعقدة، قوامها ثنائية القضية والمشكلة، وهو كان يقارب من خلالها مسألة الوجود الفلسطيني في لبنان، فيقول إن القضية هي فلسطين واللجوء هو من ثمرات العدوان الإسرائيلي وحق العودة هو الردّ على التهجير، وإذا كان من عائدات ممارسة هذا الحق ظهور السلاح الفلسطيني كمشكلة فإن مسؤولية اللبنانيين معالجة المشكلة دون الإساءة للقضية وإلحاق الأذى بها، لأن الثمن لن يدفعه الفلسطينيون وحدهم، بل سوف يدفعه اللبنانيون معهم عبر التوطين. وفي النقاش حول سلاح المقاومة كان يستعين بهذه الثنائية فيقول إن القضية هي حماية لبنان من الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية وتحرير ما بقي من أرض تحت الاحتلال، وكل مقاربة لما تُسمّى مشكلة سلاح المقاومة وكيفية تنسيقها مع المسؤولية السيادية للدولة تنتهي بالتسبب بخسارة لبنان مصدر القوة الذي تمثله المقاومة هي مقاربة خاطئة، والمسؤولية الوطنية تتجلى بالبحث عن حلول تحت سقف حفظ القضية، وهذا هو المطلوب من الاستراتيجية الوطنية للدفاع.
يصعب أن تنتج الحياة السياسية بسهولة سليم حص جديد، فهو نفسه سليم الحص ثمرة مسار وصيرورة، لكن لا يصعب ان نطلب من كل مسؤول أن يضع حداً فاصلاً بين شخصه ومسؤوليته السياسية، كما لا يصعب أن نطلب من المسؤول أن يقرأ، وإن كان جدياً أن يكتب، ولعل هذا المعيار الذي تميز به دائماً سليم الحص كانت علامته الفارقة على الجمع بين الحاكم القدوة والمفكر الألمعي.

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى