ثلاثية نتنياهو ورباعية نصرالله
ناصر قنديل
– يعرف بنيامين نتنياهو أن دولة عظمى بحجم أميركا تملك مقدرات مالية وبشرية وعسكرية هائلة، بدأت تدرس ما أسمته بالفشل في حربها على العراق منذ العام 2004 عندما بلغ عدد إصاباتها في هذه الحرب الـ4000 إصابة في سنة، ولذلك كانت حساباته أن ضربة بحجم تفجيرات أجهزة المناداة والاتصال توقع عدداً مماثلاً من الإصابات القاسية في صفوف قوة بحجم حزب الله البشريّ والماليّ والتسليحيّ مقارنة بأميركا يجب أن تعني سقوطه أرضاً، إن لم يرفع الراية البيضاء بصورة مواربة طلباً لحل سياسي عبر الوسطاء.
– يعرف نتنياهو ثانياً أن لدى كيان الاحتلال ثأراً تاريخياً فكرياً مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله منذ العام 2000، على خلفية الهزيمة العسكرية لجيش الاحتلال في جنوب لبنان، وجوهر الثأر يرتبط بمعادلة السيد نصرالله التاريخية التي أطلقها في ساحة بنت جبيل ولم يستطع جيش الاحتلال دخول هذه الساحة في حرب تموز 2006 لمحو آثار وصدى معادلة السيد نصرالله التي تقول: “”إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت”. وقد تحولت هذه المعادلة الى دفتر حساب يجري ترصيد كل هزائم الكيان فيه ضمن حرب نفسية مفتوحة تصيب بنية الكيان الداخلية وتصل الى جيشه وسمعته العالمية. وكان اعتقاد نتنياهو أن الضربات المتلاحقة التي أصابت حزب الله سوف تتيح له إسقاط هذه المعادلة، باستعادة صورة القوة الإسرائيلية المبهرة، وتصدير صورة الضعف إلى حزب الله الذي اعتاد احتكار الإبهار في حروبه، وربما يلبسه ثوب الحزب الذي لبسته “إسرائيل” لعقود باعتبارها أوهن من بيت العنكبوت.
– يعرف نتنياهو ثالثاً أنه مطالب بعدم الوقوع على جبهة لبنان بالخطأ الذي ارتكبه في جبهة غزة بجعل العنوان والشعار والهدف سحق حماس، وقد سبق للكيان أن خسر حرب تموز 2006 لأنه رفع شعاراً للحرب هو سحق حزب الله، كما قال تقرير فينوغراد، ولذلك فهو يعتقد أنه وضع شعارات واقعية منخفضة السقوف أسوة بما فعل محور المقاومة وفي قلبه حركة حماس بعد طوفان الأقصى وانطلاق جبهات الإسناد، عبر المطالبة بوقف الحرب على غزة وانسحاب قوات الاحتلال منها لإنجاز صفقة تبادل للأسرى، فوضع هدفاً لحربه على الحزب هو إعادة مستوطني الشمال المهجّرين إلى مستوطناتهم، وهو هدف يبدو منخفض السقف وواقعيّاً ومطلبيّاً وسهل التسويق داخل الكيان وخارجه، لكن تحقيقه يعني نزع أهم ورقة ضغط بيد حزب الله لإسناد غزة عبر الاستثمار في قضية المهجّرين للضغط على حكومة نتنياهو للذهاب إلى اتفاق مع المقاومة في غزة، وهو هدف لا يمكن تحقيقه دون وقف النار على جبهة لبنان بمعزل عن جبهة غزة، وهو هدف يعني تحقيقه إثبات ضعف حزب الله وتراجعه ويصيب القوة الأخلاقيّة للحزب وصورته المبدئية والعقائدية كنواة صلبة لمحور المقاومة.
– شكل النهوض السريع لحزب الله من وطأة الصدمة بعد الضربات المتلاحقة بتفجير أجهزة الاتصالات، ومواصلته لمهام جبهة الإسناد من اليوم التالي لها، وبكثافة أعلى للنيران ومداها وسعة تغطيتها الجغرافيّة، ثم الردّ القويّ السريع باستهداف صاروخي نوعي مؤلم في حيفا، لهدفين عسكريين لكل منهما قيمة استراتيجية، القاعدة الجوية رامات ديفيد ومصنع رفائيل للأسلحة الإلكترونية والاستخبارية، ودون الحاجة الى التحليل ظهر حزب الله حزباً فولاذياً فسقطت فرصة تصدير خزي معادلة “أوهن من بيت العنكبوت” إليه. فمن أي معدن وأي صخر قُدَّ هذا الحزب الذي ينهض واقفاً على قدميه بهذه السرعة وهذه القوة، بالمقارنة مع تفاعل دولة بحجم أميركا مع خسائر مشابهة؟
– مقابل ثلاثية نتنياهو تزامن حرص حزب الله على التعبير بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله عن هذا الاقتدار، وإثبات الطابع الفولاذي للحزب، مع تأكيد السيد نصرالله ثانياً، على استحالة البحث بفك الترابط مع جبهة غزة، راسماً معادلة تربط مطلب إعادة مهجري مستوطنات الشمال مع العبور من ممر إلزامي هو الذهاب الى عقد اتفاق في غزة مع المقاومة. وهذه الدعوة لاقت خلال شهور الحرب الماضية رواجاً وقبولاً دولياً، وصل الى واشنطن في كثير من المرات التي قال فيها المسؤولون الأميركيون بمن فيهم الرئيس جو بايدن، عن الاعتقاد بأن إنجاز اتفاق لوقف النار في غزة سوف يترتب عليه تلقائياً وقف النار في جبهة لبنان وعودة المهجرين الى بيوتهم، وبذلك شكل خطاب السيد نصرالله نحو داخل الكيان رسالة واضحة مضمونها، نحو أقوياء كالفولاذ ولن نسقط كما يتوهم قادتكم وربما يتوهّم بعضكم، ومَن يريد منكم عودة مهجّري المستوطنات فليخرج إلى الشارع للضغط من أجل تسريع الاتفاق مع المقاومة في غزة فذلك هو الطريق الوحيد لعودتهم، كما هو الطريق الوحيد لعودة الأسرى، وفقاً لمعادلة المقاومة في غزة.
– الركن الثالث في رباعيّة السيد نصرالله هو إمساك الشعار المرتبط بإعادة مهجري الشمال، الذي ظنه نتنياهو واقعياً ومنخفض السقف، وابتعاداً عن اللغة الخيالية لمفهوم النصر، والإصرار على تحويله إلى تحدٍّ يصعب على نتنياهو التراجع عنه، نحو شعار صعب الإثبات مثل إضعاف حزب الله، ورسم معادلة قوامها، أن النجاح بإعادة مهجري المستوطنات دون اتفاق في غزة يعني انتصار الكيان وهزيمة المقاومة، والفشل بإعادة المهجّرين هو إعلان انتصار للمقاومة وهزيمة للكيان.
الركن الرابع في خطة السيد نصرالله كانت رسم خريطة طريق لوظيفة العمل العسكري في تحقيق النصر، وهو ما لا يملكه نتنياهو، لأن السيد نصرالله يقول عبر النار إن ظروف عودة المهجرين لن تتحقق لأن الشمال يشتعل، ثم يوسّع دائرة النار ليزيد أعداد المهجرين، بينما لا يملك نتنياهو جواباً على سؤال كيف للغارات الإسرائيلية أن تحقق عودة المهجرين، ووفقاً للمنازلة المفتوحة اليوم، يربح السيد نصرالله بالنقاط في كل يوم يمر من هذه الحرب وفق القواعد الراهنة، فهل يستطيع نتنياهو تغييرها؟
– بينما تتزايد داخل الكيان المخاوف من مزيد من تقاذف النيران، والعمق الإسرائيلي بات مكشوفاً أمام صواريخ المقاومة وطائراتها المسيرة، اذا تعرّض العمق السكني والمدني في لبنان لهجمات عشوائية على طريقة حرب تموز 2006 أو ما يجري في غزة، والدعم الذي جمعه نتنياهو لخيار حرب الشمال يتآكل ويهترئ، وقد بدأ يسقط من بين يديه خيار حرب المدن ضمنه، وبينما يخرج الكثيرون من تحت عباءة دعم هذه الحرب، يذهب الباقون للقول لنتنياهو، إذا كنت تريد المضي بالحرب فاذهب للهجوم البرّي، وحقق إبعاد حزب الله عن الجبهة، وحزب الله الجاهز للتعامل مع فرضيتي التصعيد الناري أو التقدم البري، يفتح الباب لفرضية استمرار الوضع الراهن وصولاً لسقوط خيار الحرب وصعود خيار اتفاق في غزة، كما يرحّب بفرضية الاختبار البري، ويتمنى ألا يضطر لإظهار ما يملك في الخيار الناري المفتوح، تفادياً لما سوف يلحق بلبنان من خسائر، حتى لو كان الثمن دماراً شاملاً في الكيان، فهل يتحول الخيار البري الى مخرج أحادي لنتنياهو قبل السقوط؟
– مثلما يتمنى نتنياهو أن ينزلق حزب الله نحو حرب المدن قبله، يسعى حزب الله إلى تجنب هذا الخيار رغم كثرة النداءات بنيات طيبة أو سيئة، وبقدر ما يسعى حزب الله إلى تفعيل الضغوط الداخلية على نتنياهو للذهاب إلى اتفاق غزة بضغط النيران على عمق الكيان وزيادة أعداد المهجّرين والمرشحين للتهجير، لا يمانع وربما يتمنى اختبار المواجهة البرية، وأن يتوهّم نتنياهو وفق سيناريو أحمق أن جيشه يمكن أن ينجح.
– السؤال المهم الذي يفترض أن يطرحه الذين يملكون الحد الأدنى من قدرة التفكير الهادئ في الكيان، ومنهم القادة العسكريون، هو كيف سوف يستطيع الجيش الآتي من حرب سنة أنهكته في غزة، أن يحقق ما عجز عن تحقيقه عندما كان في ذروة قوته عام 2006 في مواجهة واحد من عشرة من قدرة حزب الله اليوم، وكيف يمكن للجيش الذي فشل في تحقيق النصر على حركة حماس في غزة خلال سنة، تحقيق النصر على حزب الله الذي يملك عشرة أضعاف ما لدى حركة حماس، ويتحرك على مساحة تعادل عشرة أضعاف مساحة غزة، وفيها تضاريس تعظّم من مخاطر القتال فيها؟
– يقول السيد نصرالله مراراً، شكراً لله أن جعل أعداءنا من الحمقى.