حقبة مشرقة من حوار الديانات

العبور إلى تاريخ «حوار الديانات» عبور شائك ومتشعّب، لأنّ العابرين منه أو إليه يتركون، على هامش هذا الحوار، الكثير من علامات الاستفهام، وربما من علامات التعجّب، وربما الكثير من «الضحايا» الذين يتحوّلون، في فترات زمنية نسبية، إمّا إلى كفرة، وإمّا إلى قدّيسين، وذلك تبعاً للمؤرّخ أو الكاتب اللذين يشتغلان على تلك الحوارات!
لستُ هنا لأبحث في «حوار الديانات»، فالبحث، أيّاً كان، موضوع منهجي تلزمه الوثائق، والمراجع، والحجج، والحياديّة، وبعض هذه العناصر غير متوافرة، وإنْ وُجدت، فطابَعُ الميل والهوى يشوّه الحقائق، ويجعلها موضع ريب.
سأتناول مرحلة واحدة فقط من تاريخ بغداد في ظلّ الدولة العبّاسية، وتحديداً في عصر الخليفة المأمون مؤسّس «بيت الحكمة».
كان «بيت الحكمة» ظاهرة إبداعيّة جريئة قلّما لجأ إليها الخلفاء السلف، كما أنّ هذه الظاهرة الفريدة ماتت بانتهاء «عصر المأمون». فتحتَ قباب هذا البيت اجتمع العلماء من كلّ الأطياف الدينية، والفكرية، والمذهبية، والأدبية، وتحاوروا بقلوب مفتوحة، وعقول نيّرة، وبحرية تامة. لم يكن السيّاف ينتظر واحداً منهم في زاوية ما لينطع رأسه أو ليقصّ لسانه. كان هؤلاء العلماء واثقين بأنّ عباءة الخليفة تحمي أفكارهم، فجاهدوا بها، وتحاوروا في ما بينهم، فأعطوا، هذه الحقبة المشرقة من تاريخنا، أفضل ما يباهي به الناس: الحريّة الدينية.