لبنان يقاوم الموت من أجل الحياة…

د. عدنان نجيب الدين
لا بدّ، أولاً، من تعريف مفهوم الحياة. فالحياة البيولوجية التي تعني مجرد العيش يشترك فيها الإنسان والحيوان والنبات. أما مفهوم الحياة عند الشعوب فله معنى آخر غير مجرد العيش وهو خاص بالإنسان فقط.
وكما قال إيمانويل كانط، «إنّ الكائن العقلاني وحده لديه القدرة على التصرّف وفقاً لما تمثله القوانين، أيّ وفقاً للمبادئ»، ونحن نجد في كتابيه «نقد العقل العملي» و «الدين في حدود العقل المجرد»، معنى آخر للحياة هو «السعي وراء الخير الأسمى».
وهذا ما يمكن ترجمته بالحياة الآمنة، والعيش الكريم، حيث لا ذلّ ولا تبعية. وهو يتجسّد أيضاً بالقدرة على التفكير الحر، وامتلاك الإرادة الحرة، واكتساب المعرفة، والحركة غير المقيّدة إلا بالقانون، والتمسك بالأرض، وحماية حدود الوطن وحفظ السيادة.
التفكير الحر لا أحد يستطيع منعه عن الإنسان، لكن التعبير عنه بالكلمة او بالرسم، بالرفض أو القبول، هو الذي يكون عرضة للقمع والاضطهاد. وسؤالنا المنطقي هنا: هل ما يقوم به الاحتلال الصهيوني من اغتصاب للأرض وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والرضّع منهم والنساء والشيوخ هو سعي للخير الأسمى؟
وهل تهجير السكان من أرضهم وتدمير بيوتهم والمستشفيات والمدارس ومراكز العبادة هي سعي للخير الأسمى؟ وهل حماية الدول الكبرى للصهاينة هو سعي للخير الأسمى؟ وهل انتهاك كلّ القيم الأخلاقية والإنسانية هو سعي للخير الأسمى؟
نحن» طلاب حياة لا موت فيها» عبارة أطلقها فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، ونحن معه في ما قاله.
الموت هو مفهوم ومصداقه عنصران: الأول، هو الفساد في الداخل الناتج عن النظام الطائفي الذي لا يساوي بين اللبنانيين ويحمي الفاسدين ويجعل الحياة السياسية رهينة المحاصصة الطائفية ويمنع المحاسبة عن المقصّرين أو التبعيّين للخارج بما يضرّ بمصلحة الوطن والمواطنين.
الفساد هو الذي أدّى إلى عدم تحقيق العدالة في البلد، وهو الذي عطل المؤسسات وأرسى مفهوم المحاصصة الطائفية والمذهبية بين من يسمّون أنفسهم زعماء الطوائف. وهو الذي حرم اللبنانيين من مقومات الحياة الكريمة حيث لا ماء ولا كهرباء ولا بنى تحتية ولا قضاء مستقلّ يستطيع اللبناني من خلاله الاطمئنان على حقوقه وعلى العدالة فيه.
الفساد هو الذي أدّى إلى سرقة أموال المودعين وضرب الاقتصاد اللبناني، ولا محاسبة حتى اليوم.
الفساد هو الذي حرم المتقاعدين من قيمة مدّخراتهم وأفقر الناس وعزز المحسوبيات والرشاوى ومنع احترام القوانين. الفساد السياسي والأخلاقي هو الذي تجسّد بالخضوع للهيمنة الأميركية وجعلها تخنق لبنان سياسياً واقتصادياً، وهو الذي حجب عن جيشنا الباسل إمكانية تطوير قدراته الدفاعية وتزويد قطعاته بالأسلحة الرادعة التي يستطيع من خلالها حماية الوطن والمواطنين الذين اضطروا للجوء إلى تدبّر أمورهم من خلال إنشاء حركات المقاومة ضدّ الاحتلال، والتصدّي لاعتداءاته المتكرّرة عليهم وارتكابه المجازر بحقهم، وتدمير بيوتهم على رؤوسهم، فيما تبدو الدولة غير مسؤولة وغير قادرة على الدفاع عن حدود الوطن وعن حماية مواطنيها.
وهناك اليوم من يطالب المقاومة بالتخلي عن سلاحها ليصبح المواطنون وأملاكهم لقمة سائغة للعدو. فهل هناك من منطق قويم يبرّر أن يجد المواطن نفسه بلا دولة تحميه ولا يقاوم حفاظاً على حياته وأرضه وعرضه؟
العنصر الثاني الذي يتجسّد بالموت هو الآلة التدميرية التي يمتلكها الكيان الصهيوني الذي يعمد تارة الى الحروب واحتلال أراضي الغير بالقوة وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتارة الى إثارة الفتن الداخلية بين المكونات الدينية او الاتنية لشعوبنا العربية.
الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضدّ شعوب المنطقة ولا سيما في لبنان وفلسطين التي شنّت على شعبها حرب إبادة بقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير كلّ مظاهر الحياة باستهداف المستشفيات والمرضى والمدارس والمحطات الكهرباء والماء وجرف الطرقات وتدمير البيوت على ساكنيها. وفي لبنان حيث دمر المنازل والقرى الامامية وصولا إلى العاصمة بيروت، واستخدم القنابل الفوسفورية والمخصبة نووياً والأسلحة المحرمة دوليا…
فأيّ إنسان يتمتع بعقل سليم يطالب بسلام مع مجرم غاصب متعطش للدماء وشكل من عصاباته الإرهابية دولة لاحتلال أرض ليست له في فلسطين وطرد شعبها منها، وهو يحاول اليوم كما كان دائماً يفعل توسعة كيانه باحتلال أراض جديدة من الدول المجاورة؟ أيّ سلام مع عدو ينشر الموت والرعب والدمار ويسعى للقضاء علينا وعلى شعوب المنطقة ونهب خيراتنا؟
ألم يقلها نتنياهو بصريح العبارة بأنه يخوض حرباً وجودية في المنطقة. ومعنى ذلك أنه يريد ان يقضي على كلّ من يعارض احتلاله للأرض التي اغتصبها في فلسطين والأراضي التي يزمع اغتصابها في لبنان والدول المجاورة لتوسعه كيانه في المنطقة؟
العدو الصهيوني لا يريد حياة إلا لكيانه، ويخيّر شعوب المنطقة بين الرضوخ له والتسليم باحتلال أراضيها وجعل شعوبها عبيداً عنده، وإما طردها منها أو إبادتها كما يحصل في غزة والضفة الغربية اليوم.
وهنا نطرح السؤال: كيف يستوي الأمر بين الحياة والموت، بين عدو قاتل مغتصب لحقوق الآخرين وشعب يريد العيش بأمان وحرية؟
السلام مع الكيان الصهيوني هو استسلام للقاتل
وهو التسليم بانتصار الموت على الحياة.
أما المقاومة ضدّ العدو المغتصب للأرض والمرتكب لأبشع أنواع المجازر والاستشهاد دفاعاً عن الشعب والوطن هو الحياة الحقيقية، لأنّ الموت هنا هو ذوْد عن الحياة،
لم يعد المواطن اللبناني يصدّق الإعلام المضلّل الذي يقول إنّ المقاومة تسيطر على قرار الحرب والسلم، لأنّ من يتخذ قرارات الحرب والسلم هو من يريد إقامة مشروع «الشرق الأوسط الجديد» و»إسرائيل الكبرى». فهل نتركه يحقق أطماعه وإجرامه أم نقاوم للبقاء في أرضنا واستثمار خيراتنا وضمان أمتنا وحريتنا وسيادة الدولة على كامل حدودنا؟
المقاومة هي إحياء لشعب بأكمله، بل هي إحياء للقيم الإنسانية والأخلاقية. اما الاستسلام للعدو والقبول بشروطه المذلة للشعب والوطن فهو الموت الحقيقي للشعوب والفناء اليقيني للأخلاق.
شعبنا لم يعد يقبل كلّ هذه الأكاذيب التي تحمّل المقاومة مسؤولية إجرام العدو ومحاولته احتلال أرضنا، كما انه يرفض كلّ أبواق الإعلام الصهيوني عربية كانت أم أجنبية التي تبرّر للعدو ارتكاب جرائمه ثم تدعو لإقامة «سلام» معه على قاعدة انهزام الشعوب ومقاوماتها. فالمقاومة هي عمل دائم ولا يتوقف إلا بالتحرير وإقامة دولة قادرة على الدفاع عن شعبها وأرضها وحدودها.
وإذا استطاع الاحتلال تحقيق بعض الإنجازات في مرحلة ما من الصراع معه، فهذا لا يعني انتهاء الأمر والتسليم له بالبقاء في أرضنا والسيطرة على قرارنا السياسي والاستسلام له والتنازل عن سيادتنا، لأنّ المقاومة هي حركة الحياة الحرة نحو الخير الأسمى، وحركة ضدّ الموت والتبعية.
نعم، الحياة هي «السعي نحو الخير الأسمى» كما قال الفيلسوف الألماني كانط.