أولى

لا تطبيع ولا سلام ولا تسليم…

 

 أحمد بهجة

 

عاش العرب عقوداً من الزمن على ثوابت اللاءات الثلاث التي خرجت بها قمة الخرطوم في 1 أيلول 1967 (لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف)، وذلك بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على هزيمة (نكسة) حزيران 1967.
كما شهدت تلك القمة حدثاً لا يتمّ التطرق إليه كثيراً لأنّ اللاءات الثلاث أخذت كلّ المساحة الإعلامية، والحدث هو اللقاء الاستثنائي بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والملك السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز، والمصالحة بينهما بعد فترة طويلة من الخصومة بل الحرب بين الرجلين اللذين كانا يعبّران آنذاك عن الصدام الكبير ليس فقط بين مصر والسعودية، بل بين المحاور العربية والإقليمية والدولية.
أهمية ما أنجزته قمة الخرطوم قبل نحو ستين عاماً أنها أثبتت قدرة العرب ـ إذا حزموا أمرهم ـ أن يتخذوا القرارات الكبيرة التي من شأنها أن تقطع الطريق أمام «إسرائيل» والولايات المتحدة وكلّ حلفائهما في العالم، وتمنعهم من استغلال أيّ نقاط ضعف قد تظهر في مرحلة ما من مراحل الصراع، مما يؤكد رفض أيّ شكل من أشكال الإذعان أو الاستسلام، مهما كان حجم التفوّق العسكري الإسرائيلي مع كلّ الدعم الأميركي والغربي اللامحدود بالسلاح والمال والتكنولوجيا والاستخبارات وغير ذلك.
دارت الأيام وتغيّرت الأزمنة وتنازل بعض العرب عن تلك الثوابت، وذهبوا باتجاه «التطبيع والسلام مع العدو الإسرائيلي»، فيما بقيَ البعض الآخر متمسكاً بمبادئه وثوابته وإصراره على مواصلة النضال لتحقيق الأهداف المنشودة مهما كانت الصعوبات والتحديات والتضحيات…
لا يختلف واقعنا اليوم عن مرحلة قمة الخرطوم، مع فارق أنّ تلك القمة خرجت بموقف موحد عالي السقف بينما تبقى قمم اليوم تحت سقف ما يُسمّى «عملية السلام» مع العدو الإسرائيلي رغم أنّ هذا العدو لا يقيم وزناً لأيّ مبادرات سلمية، وها أنّ بنيامين نتنياهو يعلن على الفور رفض مبادرة القمة العربية الطارئة في القاهرة بشأن غزة، مكرّراً ما قاله قبله أرييل شارون عن المبادرة العربية التي أقرّتها قمة بيروت عام 2002، ووصفه إياها بأنها «لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به»!
هذا التراجع العربي منذ قمة الخرطوم إلى اليوم هو الذي يُسبّب للعرب كلّ هذه المآسي المتنقلة بين دولة عربية وأخرى بحيث لا تسلَم منه أيّ دولة عربية، ومَن اعتقد من العرب أنه نجا من الاستهداف أتاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بطرح تهجير أبناء غزة إلى مصر والأردن، ثم زاد عليه نتنياهو بطرح إقامة دولة للفلسطينيين في الأراضي السعودية الشاسعة، وذلك رداً على تأكيد ولي العهد السعودي على التمسك بحلّ الدولتين.
تعالوا الآن لنتخيّل أنّ العرب عادوا إلى وحدتهم وأكدوا مجدّداً ثوابتهم الوطنية والقومية والدينية وأعلنوا أنهم سيواجهون هذا العدو بكلّ ما لديهم من إمكانيات وقدرات، كأن يجنّدوا في ساحة المعركة ما لديهم من أسلحة مضادة للطيران، بحيث يمنعون طائرات العدو من استهداف غزة ولبنان وسورية واليمن وكلّ دولة عربية قد تكون على جدول استهدافات العدو، في حين يتكفّل المقاومون بالتصدّي البري ومنع العدو من التقدّم ولو لشبر واحد في الأراضي العربية، بل أكثر من ذلك يصبح لدى المقاومين كلّ الحافزية والجهوزية لتحرير كلّ الأراضي العربية المحتلة.
هذا ليس خيالاً بالطبع، هو واقع يمكن حصوله في أيّ وقت، لكن شرطه هو أن تتوفر لدى كلّ القادة العرب شجاعة المقاومين الذين يجسّدون إيمانهم بأنهم لا يريدون شيئاً من هذه الدنيا إلا العزة والكرامة لأهلهم وشعوبهم وبلدانهم.
أليس هذا ما فعلته وتفعله المقاومة في غزة ولبنان واليمن، ومعها كلّ الأحرار في العالمين العربي والإسلامي، بل في العالم أجمع؟ وماذا يمنع أن يفعله الآخرون أيضاً وأن يضعوا حداً لكلّ هذه الغطرسة الصهيونية والأميركية والغربية عموماً؟
نحن في لبنان خاصة قدّمنا أغلى التضحيات وأغلى الناس على قلوبنا، ولا يمكن أن نتسامح مع أيّ تنازل أو تفريط أو تهاون بالثوابت الوطنية، وأوّلها الرفض القاطع لأيّ شكل من أشكال التطبيع أو «السلام»، أو أيّ طرح عن تسليم السلاح قبل أن تصبح دولتنا قوية وقادرة، تحظى بثقة شعبها أنها تستطيع حماية الناس والأرض التي حماها رجال الله في الميدان وعلى رأسهم شهيدنا الأسمى سماحة السيد حسن نصرالله ورفاقه وأخوته القادة والمجاهدين الأشداء الذين بذلوا الدماء والأرواح في سبيل أن يبقى بلدُنا عزيزاً كريماً ومُصاناً، ومن أجل أن يكون لأجيالنا الطالعة المستقبل الزاهر والمشرق الذي تحلم به وتتطلّع إليه…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى