أولى

سورية «الانتقالية» بين أميركا و«إسرائيل» وتركيا… إلى أين؟

 

 د. عصام نعمان*

 

اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية. لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سورية «الانتقالية». الى أين ستنتقل سورية، أو بالأحرى الى أين تنوي أميركا و«إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟
لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر لأنّ أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال وكيف ستكون سورية شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سورية في حاضرها المضطرب. ولعلّ أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكريّة في سورية منذ سنوات عدّة بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي الذي كان نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل بشمال العراق ومحافظة الرقة في شمال شرق سورية. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سورية والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسيّة بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور، حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سورية حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون. مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أميركا المتمرّدين الكرد الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سورية الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإنّ واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سورية شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور.
«إسرائيل» تحتلّ نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سورية، وتسيطر على حوض نهر اليرموك وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً، كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحّدين الدروز السوريين في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أنّ «إسرائيل» بدأت بتفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزيّة في الجنوب السوري والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانيّة امتدادها لضمّ دروز لبنان أيضاً.
تركيا يهمّها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصاليّ في جنوبي شرق أراضيها وشمال شرق سورية. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقاليّ في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكريّة لها في شمال البلاد.
وسط تدخّلات هذه الدول الثلاث القويّة النافذة، يحاول الحكم الانتقاليّ في دمشق بقيادة أحمد الشرع تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدمويّة العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق الى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع «الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسّس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات مع استمراره لمدة خمسة اعوام على الأقلّ.
«الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة. أوّلها من «مجلس سورية الديمقراطية»، الذراع السياسيّة لـِ «قسد»، الذي اعتبر الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعيّ ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وانّ «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوريّ، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل» في إشارةٍ الى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة.
من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطوّرات يمكن استخلاص النقاط السياسيّة الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسيّ والطائفيّ هو السمة الغالبة في حاضر سورية الانتقالية.
*إنّ عملية توحيد جغرافية سورية سياسياً وإدارياً التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سورية.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سورية حيث الكرد و«قسد»، ولذلك تسعى الى إقامة قواعد عسكريّة في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة أخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقاليّ في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سورية في الوقت الحاضر، وإنّ ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي الى سورية في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سورية في الوقت الحاضر بل ثمة تسليم بالدور الأميركي الناشط بلا أدنى منافسة.
*لعلّ أدقّ توصيف لحال سورية في الوقت الحاضر هو أنّها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحّد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سورية مفتوحاً على شتى الاحتمالات.

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى