أولى

عن لبنان الدولة والسيادة (1)

 

 د. بلال اللقيس

 

الدولة هي فكرة ومعنى وصيرورة مخلّقة للاجتماع الإنساني، هي تساوي نظره شعبها لها وما يختزنه من إدراكات حولها، هي ناتج ثقة متعددة الطبقات والأبعاد. هي حاجة وضرورة ليس لحماية الذات ولا التنافس التعاوني فحسب بل للبناء الحضاري والترقي الإنساني. المرء إنساني الحقيقة والقيَم والأحاسيس جغرافي العيش والمسكن، يحتاج إلى المادة وهو أشدّ احتياجاً إلى المعنى والمثال، يحتاج أن يكون مواطناً في دولة ويحتاج بالتلازم أن يكون إنساناً في العالم فلا يطيح انتماء بانتماء ولا حاجة بحاجة ولا يغلق أحدهما على الآخر.
الدولة هي الوسط لحلّ المشكلة الاجتماعية والإجابة الواقعية عن أسئلة الانتماء المضطردة والمتكثرة وضمان توليفها ونظمها بأقلّ اضطراب ممكن او بأفضل سيرورة واستقرار ممكنين. فلا يصّح أن تكون فكرة الدولة انغلاقية ارتدادية كما لا يصحّ أن تكون ذوبانية هلامية تضيع فيها الخصوصية المعنوية كما المادية، فلا دولة دون ان يتحدّد من نحن قبل أيّ أمر آخر.
نأتي إلى السيادة، فالسيادة هي عتبة بلوغ الدولة والعامل الكيفي الأبرز في بلوغ الاجتماع حالة الدولة، الأخيرة ليست تفاعل العناصر الاجتماعية بالجغرافيا ولا انوجاد أرض وشعب وسلطة فهذه الثلاثية ليست كافية لانبثاق فكرة الدولة. كلّ العناصر تنتظر تبلور عامل السيادة كممّيز كيفي لدخول الدولة.
تعارفت العلوم وأكدت التجارب أنّ السيادة كالروح والأخلاق لا تتوزّع ولا تتوقّف ولا تتجزّأ ولا تتقسم كما انّ نقصانها يعني انتفاءها، هي التجلّي الفعلي للإرادة العامة التي تمارسها السلطة وهي من بين الأمور التي لا تفوّض ولا توكل لأيّ سلطة هي ملك الشعب ودليل إرادته وتمايزه، فلا يمكن لأيّ سلطة ولأيّ سبب التخلي ولو الجزئي عن السيادة ولا شرعية لها دون السيادة.
ولأنّنا في دول «ممنوحة» من الخارج ايّ وهبنا إياها الخارج ولأننا إزاء سلطات لم تسع لتعريف الذات بل انشغلت لعقود بالبحث عن الامتيازات، صارت السيادة فكرة سطحية فاقدة للعمق ولم ترتكز في الوعي كسيرورة اجتماعية وقيمة مميِزة، فنرى أنّ السيادة مقسّمة وموزعة بين الداخل والخارج فالخارج هو واهب «السيادة» أيّ واهب الحياة للدول من جهة، وهو مقسم السيادة وموزعها ومعرفها على مقاس مصالحه «السيادية» ونظرته لنا فسعى إلى توزيع السيادة بدل التوزيع الحيوي والعادل للسلطة. فنشأت السيادة مضطربة ومشّككة في عين الشعب وفهمه (أفهامه) ولم يعد هناك رؤية وتفسير مشترك لها طالما أنّ الإرادة العامة لم تتشارك في اجتراحها وفق مقتضيات الاستقلال والتحرر اللازمتين. فبقينا لأمد طويل دعاة سيادة لكننا نتشبّه بنماذج خارجية في مفارقة قد نسيرها بين الدول ولم نفكر يوماً كيف نكون شبَه أنفسنا (بالمناسبة بعضنا الآن في حيرة من أمرنا بمن يشبّه لبنان بعدما سقط النموذج الغربي وتداعى).
الدولة في واقعنا العربي أو بالأحرى السلطة تراها اهتمّت في البحث عن السيادة في جوانب دون أخرى. تهتمّ بالسيادة حيال الداخل أما سيادتها حيال الخارج فتركت المهمة فيها للخارج دون تردّد!
تراها تطالب الاعتراف بها من شعبها بينما يراها الأخير تابعة للخارج! فكيف به أن يثق أنّ ما تطالب به هو لإنجاز السيادة وليس لتنفيذ أجندة خارجية وتكريس الاستتباع وتبديد الإرادة الجمعية. كيف سيثق بها بينما لا يراها إلا ممراً ومعبراً «محايداً» من الخارج الى الداخل.
تستعجل احتكار القوة والآمرية وتتناسى احتكار القرار السيادي فتوكله للخارج، وتتغافل انّ سلطات أخرى أشدّ فتكاً بالمجتمع وتأثيراً على القرار وتقييد السلطة المال والإعلام والإقتصاد والتقانة والثروة.
تثير حالة من الامتعاض الشديد حيث يرى المرء سلطته متفرّجة على حقوقه الضائعة لا تملك حيلة أو أنّها تنعدم الإجابة على أول حقوقه في العيش والحماية. ولا ينتهي الأمر هنا بل تراها ـ أيّ السلطة ـ تقف لتطلب دون أن تقدّم او تبادر كأنّ المنشود يتوقف على الشعب وليس على سلطته! كأنه هو الراعي الكبير وهي الطفل الصغير. تريد ان تفرض عليه رتابة رؤاها لحدّ القبول بأهداف ومكانة دنيا كان يبقى تابعاً ومستتبعاً. تطالبه بمنظومة قيمية تستوردها بدل أن تصنعها، تطالبه بالتنازل عن هويته بينما هي لا تقدّم له شعوراً بهوية وانتماء لائق. لا تقتصر الدولة السلطة على هذا فحسب بل يقوم خطابها على الزجر بدل الإقناع والتهديد باستخدام العنف بدل بناء الثقة!
في المقابل، يطالبها هو بندية التعاطي معه فهو ليس محكوماً فقط بل حاكم ايضاً وان تقنعه بمنظومة القيم التي تدعوه اليها، هو أعطاها لأن تمثّل تطلعاته لا ان تمرّر الخارج وإرادته عليه. هو يطالبها بالحقوق الدستورية والطبيعية الأولى بينما هي تطالبه بالقوانين والمراسيم وبانتقائية ايضاً!
والمفارقة العجيبة أنّ المواطن في بعض دولنا ـ لبنان مثالاً ـ تحمّل ماضياً ويتحمّل الآن وغداً رتابة السلطة وخواء منطقها وحججها لكنّه مع ذلك لم ولن يتوانى يوماً عن القيام بواجباته الوطنية وحفظ استقرار مجتمعه ونهائيته وتأكيد الأمان الداخلي والتماسك والوحدة رغم فقدانه لحقوقه وهذا تأكيد انّ المجتمع لا سيما المقاوم أرقى من دولته وأفضل والهوة بينهما كبيرة. والحق يُقال إنّ ما يقوم به البعض في لبنان ـ شعب المقاومة كنموذج ـ هو ليس مفارقة بقدر ما هي قناعة وثقافة وتنشئة أخلاقية وإيمانية تنشد الوحدة والانسجام مع الجماعة والاتحاد بها ما أمكن وقبل ذلك ومعه تعلي روح التحرّر والثقة بالنفس والاعتزاز بها والإعلاء من الكرامة. هذا الشعب الاستثنائي ينتظر من دولته أموراً كثيرة لم يلمسها بعد منذ أمد، ينتظر من دولته تقديم الحريّة والعدالة في علاقاتها الدولية كتأكيد على سيادتها (مع غير العدو الصهيوني)، وتقديم الإرادة العامة على الفئوية والطائفية في الداخل وقبل ذلك تقديم تعريف الإرادة العامة والمشاركة المتساوية، وينتظر سلوكاً مقنعاً يبني الثقة البينية ويعززها وينتظر حقوقه في تساوي الفرص في الداخل وينتظر العدالة السياسية في التقرير لتحديد صورة الدولة المنشودة وينتظر أن تشعره دولته بالثقة وأنها ملاذ في مواجهة التحّديات وينتظر ان يتلمّس طريق بناء دولة يبدأ من الجواني إلى البراني وليس العكس كي لا يبقى العقد الاجتماعي متذبذباً وغير مستّقر ومفخخ.
هو لا يرى الدولة شركة، يراها سيرورة وصيرورة اجتماعية وتصوّر وخيال وترميزات ومثل نسعى فيها واليها. لا نحتاجها لنأكل ونشرب ـ رغم أنّ دولنا لم تنجح بتأمين ذلك ـ بل لتقدّم تدريجياً لفردها الذي يريد ان يدخل في مواطنيتها مقومات انعتاقه وتحّرره لا إغلاقه وتقييده، توسعة فرص الاختيار أمامه واستمرار الإبداع دون الإخلال بالاستقرار. ودون ذلك لا نكون في دولة بل نكون في شبه دولة أو مستوى ومنزل من منازل الاجتماع أو عيش فرضته ظروف قسرية لا ينتج رسالة ولا معنى أخلاقياً ولا قضية متسامية ولا دفعاً حضارياً. فليس بالدعة يعرف الإنسان ولا بالخبز وحده يحيا الإنسان. فالدولة السيدة هي هذا السعي نحو مكانة وموقع وقيمة معتدّ بها بعيون شعبها وهي حالة ندية حيال الخارج وهي ليست حيّزاً جغرافياً ولا «حظيرة» بشرية أوْصلتنا الظروف اليها، ولا إسقاطاً مستورداً او على شاكلة محددّة لغير سبب ولا انتقاء قسرياً لفهم معيّن.
إنّ هشاشة مفهوم السيادة أوْدى بواقعنا ليصير فيه الشعب هو حامي ذاته وحامي الدولة من الاحتلالات ومن العدوان، وهو ضحية افتراس مجتمع رأس المال ومجتمع البنوك وسلطانه وجماعات الثقافات المنسحقة أمام كلّ خارج، وأوْدى ان تستحيل السلطة مشروع استباحة كلّ زاوية من حياة الفرد في التربية والتنشئة المستوردة والانكشاف السياسي والأمني والثقافي حتى صار المجتمع بلا ثوب سياسي يغطيه ولا حمية او مناعة (رداء الدولة)، وأوْدى أن يصير الآخرون هم مَن يحدّدون مكانته بدلاً عنه ويقرّرون مستقبله وشاكلته بالفرض والزجر والإرغام بدلاً عنه، ولا تملك السلطة من ذلك شيئاً إلا جيوش حفظ الأفراد السلطة والأمن الداخلي وحماية الأنظمة بدل حماية الشعوب من أنظمتها والدول من أعدائها. والمؤسف المبكي انّ سلطات بلادنا تتقن فنّ خطاب تبرير الضعف بالبحث عن زوايا نظرية جديدة لصناعته، فهل دخل الأفراد والجماعات فكرة الدولة ليروا أنفسهم في العراء الأمني والسياسي والقيِمي والأخلاقي والهوياتي وفي ارتكاس حضاري، وكيف ستقنع بعضهم أن يتنازل عن شيء مقابل الـ «لا شيء». لقد سئم الشعب تبرير الحكومات العربية الضعف وسئم إسقاط ثقافات خارجية عليه واستمرار مقايسته بنموذج غربي أثبت انحطاطه الأخلاقي والإنساني.
وسئم عجز دولته التي تفشل بعد عقود من معرفته وفهمه بشكل صحيح.
نحن جماعات وشعوب نفهم الحضارة والتنوّع من بوابة الاعتماد على الذات وإنتاج الميزة والصناعة الذاتية للثقافة والترقّي الحضاري والأخلاقي والإنساني، نحن مكونات لا نرى العيش آخر المطاف بل الحرية والكرامة باعتبارهما جوهر الإنسانية وماهية الحياة وروحها، نحن شعوب لا تقبل بما يحدّده الخارج لها من قسمة ومعاش ومكانة، الندية أصل في فهمنا للبناء الاجتماعي لا التبعية! العالم بالنسبة إلينا دخل مرحلة ما بعد ستاتيكو المفاهيم الذي حكم تفسيره زمن القطبين ثم القطب الواحد، نحن في زمن تعدّد الإرادات الدولية وصعود الهويات المريدة للمشاركة العادلة والمتساوية. ليس كلّ البشر ماديو النظرة والفهم ولا هم أصلاً كذلك! وليس المعيار المادي هو أساس التقييم كما ترى المدرسة الغربية الظاهرة اليوم، لم تقم الثورات الكبرى كالثورة الخمينية ومن قبلها الفرنسية والأميركية لأسباب مادية أولاً إنما بسبب التهميش وعدم الاعتراف وتضييع خصوصية الشعب والاعتراف بمكانته وقيمته (لا يُفهم من الكلام انه علينا القيام بثورة في دولنا العربية، فالتغيير والإصلاح في لبنان لا يتمّ بثورة إلخ…) ولأنّ كرامة الشعوب ترفض لغير سبب عقلائي وجيه ان يحتكر من هم فوق في السلطة المُلك وتفسير كلّ شيء رغم ضحالة منطقهم وتبدّد مبرّرات شرعيتهم وسآمة الناس منهم.
نختم بالقول إنّ الدولة ليست وعاء جامداً ولا قالباً حيادياً ولا مضموناً تحّدد محدداته من الخارج وليست السلطة فيها ناقل بضاعة ولا شركة استيراد بضائغ كالآلة تنقل معايير «الرضى» بحسب ما يُملى عليها وما تلقنه وليست صحناً لاقطاً تعيد بثه على شعبها، هي أولاً داخل يتجدّد ويستولد نفسه بخلاقية واستمرار بما يطور لها المعنى ويدفع مسار الإنسان للانحياز للحضارة واجتناب التهاوي والانحدار الأخلاقي والقيمي، فالعمر هو الوقت المحدّد والقصير نسبياً بالنسبة لكلّ فرد وهو الرصيد الذي لا يملك المرء غيره واقعاً، فلا يجب أن نضيّعه بحثاً عن عيش بل بحثاً عن حياة آدمية ترتقي بشخوصنا وتسمو بها بما يجعل لحياتنا وللوجود معنى…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى