أولى

ماذا يريد الحراك الشعبي في غزة؟

 

‬ سعادة مصطفى ارشيد*

 

في جولة الحرب الأولى على غزة وشعبها التي تواصلت لخمسة عشر شهراً بدا أن الإسرائيليّ عاجز ومتعثّر أمام المقاومة وأمام صمود أهل غزة واستعدادهم لتحمّل أكلاف الحرب جوعاً ومرضاً وأرى أن ذلك بسبب الحصار الطويل الذي عانوا منه وجعل من المقاومة خياراً، فيما كان الضجيج والسخط سيّد الموقف لدى كثير من (الإسرائيليين) من سكان غلاف غزة والجليل الذين هجّرتهم الحرب، كما من عوائل الأسرى الذين احتجزتهم المقاومة.
وقف إلى جانب المقاومة في غزة محور قويّ بقيادة إيران أعلن فور اندلاع الحرب عن إسناده لغزة، وشاغل الفرع اللبناني من المحور جيش الاحتلال بالشمال على مدى الجولة الطويلة وهجّر مئات آلاف المستوطنين من الجليل وعطل الصناعة والسياحة والزراعة، فيما كان الفرع اليمنيّ للمحور يعطّل الملاحة في بحر العرب والبحر الأحمر ويُطلق صواريخه ومسيّراته لاعتراض السفن المتّجهة إلى ميناء إيلات، متقدّماً خطوة عن غيره، وذلك بمهاجمته للسفن الأميركية والغربية إضافة إلى اشتباكه مع دولة الاحتلال، معتبراً أن هؤلاء شركاء شراكة كاملة في الحرب على الشعب الفلسطينيّ ولا يجوز استثناؤهم من القتال.
لكن مع سقوط دمشق في لحظة فارقة، وانكفاء إيران قائدة المحور، ثم توقّف حرب الإسناد من المقاومة اللبنانية وفك ارتباطها مع المقاومة الفلسطينيّة عقب الخسائر الفادحة التي أصابتها والضغوط الدولية أو المحلية الداخلية التي تعرّضت لضغطها الشديد، الأمر الذي اضطرها لشرب الكأس المرّة والموافقة على الانسحاب إلى شمال نهر الليطانيّ ثم القبول باتفاق ملتبس حول نزع السلاح يفهمه كل فريق على طريقته ولكن الأقوى هو مَن يستطيع أن يفرض تفسيره، ولم يتبقَّ إلا اليمن السعيد البعيد الذي لطالما كان عصياً على كل القوى الغازية عبر آلاف السنين ولا زال. وهذا ما جعله عرضة لهجوم عالميّ قد يكون قادراً على إنهاكه، ولكنه غير قادر على إسقاطه.
مع انكفاء المحور وتوقف حرب الإسناد ارتفع منسوب التخاذل العربيّ وأصبح هذا النظام العربيّ البائس في حالة انكشاف، إن من ناحية عدم الوقوف إلى جانب فلسطين، لا بل ودعم الاحتلال سراً في الغالب وبالعلن في بعض الأحيان، وإن من ناحية قدرته على الدفاع عن نفسه أمام الولايات المتحدة و(إسرائيل) اللتين لم تكافئه على موقفه المتخاذل وإنما أشركته في العقوبة بمشاريع التهجير والاستيلاء على غزة وضمّ الضفة الغربية وتهجير سكانها. وهكذا بقيت غزة وأهلها ومقاومتها وحيدَيْن في الميدان فيما يزداد الميزان انحرافاً في غير مصلحتها.
للعدالة والإنصاف فقد عانى أهل غزة لسنوات من الحصار الخانق، وتضاعفت معاناتهم مع استطالة الحرب وصبروا وصمدوا واحتملوا ما لا تتحمله الجبال، وكان يحدوهم الأمل بتحقيق نصر ما وبنجدة تأتيهم من الحليف الذي شاركهم الحرب أو من الآخر المشاهد – النظام العربي الذي لا بد أن يتحرّك، ولكن مع التداعيات التي تطرّق إليها المقال وانكفاء الحليف وتحول المشاهد إلى شريك في العدوان عليهم، تضاءل الأمل وأصبح فيهم مَن يعلن رغبته في إنهاء الحرب ووقف المقتلة مقابل بقائهم على أرضهم.
لكن فيما يتواصل العدوان الذي لم يعد يجد أهدافاً له سوى المدنيين، خفتت الأصوات الرافضة لاستقبال أهل غزة في هجرتهم المفروضة عليهم، عاد الحديث عن مدينة في سيناء قادرة وحدها على استيعاب نصف مليون من أهل غزة، وفي قلب ذلك كله أخذ حراك شيطاني بالظهور وبشكل مفاجئ، ولكن من الأكيد أن الإعداد له أخذ وقته الكافي عند أعداء غزة والشعب الفلسطينيّ بأشكالهم وهويّاتهم المختلفة، يرى هذا الحراك أن مشكلة غزة في المقاومة لا في الاحتلال فهي التي جرّت عليهم كل هذا الويل، وينجرّ وراءه كثيرٌ من البسطاء والطيبين الذين عضّتهم الحرب بأنيابها فاستبدلوا شعارات الدفاع عن الوطن والالتفاف حول المقاومة بشعارات فلتخرج المقاومة، وفي ذلك استنساخ لما كان يتمّ ترويجه في لبنان بأن معاناة اللبنانيين بخاصة أهل الجنوب سببها المقاومة لا الاحتلال.
في حقيقة الأمر أن الاحتلال قد استطاع مؤخراً اغتيال عدد من أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس وكثير من قادتها الميدانيّين ورموزها ولم يبق إلا من لم تصبه قذائف الاحتلال من المقاتلين العاديين، ولكن هل أوقف ذلك الحرب؟ فالحرب لن تتوقف بهذا الحراك، ولن تتوقف إلا بحراك قوميّ كبير يُجبر (إسرائيل) على وقفها.

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير – جنين – فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى