«بيت المونة» عادات موروثة بإيقاع مختلف بين التجارة والاكتفاء الذاتي تبقى القيمة في المكوّنات الطبيعية والصحية

} عبير حمدان

بعيداً عن ضجيج المدينة يأخذنا السهل الواسع بما فيه من خيرات الى زمن لم يؤثر فيه التطوّر بإطار سلبي، ونشهد العلاقة الوثيقة بين الارض ومن يزرعها ليستثمر ما يحصده من منتوجات في المكان الصحيح دون أيّ مواد حافظة أو صبغات يتمّ اعتمادها للتسويق السريع.

تتميّز قرى البقاع بموسم المونة الذي يُشكل جزءاً من عاداتها الموروثة ورغم سرعة العصر يبقى لهذا الموسم إيقاعه المختلف ولو تبدّلت الأساليب المعتمدة في التحضير الذي يسبق برد الشتاء.

ولائحة المونة كبيرة بحيث تضمّ الحبوب والمجففات والكبيس والمخللات والمربّيات ودبس الرمان وربّ البندورة ويبقى «الكشك» في أعلى القائمة كونه غذاء كاملاً ويحافظ على خصائصه من عام إلى عام، وكذلك يحتلّ «المكدوس» مكانة أساسية في «المونة البيتية».

في زمن سابق كان هذا الموسم عبارة عن ملتقى للنسوة حيث يتفقن على التعاون مداورة حين كن يحضرن «الكشك» في ظلّ غياب الآلات الحديثة التي باتت اليوم متوفرة لطحنه، وكذلك الأمر في ما يتصل بتحضير «المكدوس» ولكن المشهد تبدّل بشكل لافت بحيث أصبحت هذه الآلات ضرورة ومساهمة في تخفيف الكثير عنهن.

وقد نشأت العديد من الجمعيات الداعمة للنساء لتخرج المونة من إطارها البيتي وتدخل ضمن الدائرة الاقتصادية بحيث تستطيع أيّ امرأة ريفية تصريف ما تنتجه سواء من خلال المعارض التي تشارك فيها أو عبر شبكة علاقات تنسجها مع من يريد الابتعاد عن المنتوجات الصناعية وشراء مأكولات صحية وطبيعية.

«بيت المونة»

بدأت علا عيسى حمية مشروعها في تحضير المونة البيتية وتسويقها منذ ثلاث سنوات واستأجرت غرفة صغيرة في سهل طاريا، واليوم بات «بيت المونة» الذي أسّسته مقصداً لأهل المنطقة، وعنه تقول: «بداية المشروع كانت في هذا السهل وكنت اشتري الباذنجان والبندورة ورغم الكلفة العالية إلا أني صمّمت على الاستمرار، العام الماضي زرعت أرضي وبذلك أصبحت خيرات الأرض خميرة أساسية بالنسبة لي. و»بيت المونة» الذي بنيته مرخص من وزارات الصناعة والزراعة والصحة».

وتضيف: «بعد أن تقدّمت بطلب ترخيص من وزارة الصناعة تمّ تحويل الملف الى وزارة الصحة التي قامت بالكشف على المشروع للتأكد بأنه يستوفي كلّ الشروط الصحية، وبناء على ذلك تمّ تسجيله بشكل قانوني، وهناك مراقبة دورية من قبل الوزارات المعنية على نظافة المكان وأسلوب العمل ونظافة المياه التي اعتمدها للريّ».

وتشير إلى أنّ النظافة هي العنصر الأساسي، وفي ما يتصل بالعمال تقول: «هذا المشروع قادر على تشغيل عدد كبير من العمال كما ترين، وتبقى المشكلة مع الجهات الرسمية بعدم مساهمتها في تصريف منتوجاتنا، لذلك نكتفي بشبكات علاقاتنا وثقة الناس لتصريف المونة التي نبدأ بتحضيرها مع بدء فصل الربيع مع موسم «الفريز» ويليه «ورق العريش» و»الملوخية» وصولاً إلى المربيات من مشمش وتين ولقطين وتفاح وبعدها يأتي موسم «الكشك» ثم «المكدوس» الذي يتمّ سلقه في آلة خاصة له وبعدها نقوم بتبريده ثم نضعه في «المكبس» لتجفيفه، والكبيس ورب الرمان».

وتأمل حمية أن يكبر مشروعها لأنّ خيرات هذه الأرض تستحق أن تكون مادة يتمّ تصديرها الى كلّ مكان ولذلك تجهد ليصبح أسم «بيت المونة» ماركة مسجلة وموجودة في متناول كلّ من يريد مونة بيتية بلا مواد حافظة.

مشروع علا حمية ليس الوحيد في المنطقة وهناك نسوة تشكل «المونة البيتية» مصدر رزق لهن ولو ضمن إطار ضيق، وهن ينتظرن هذا الموسم للحصول على شيء من الاكتفاء الذاتي في ظلّ الحالة الاقتصادية المعدومة وغياب فرص العمل وربما يحتجن إلى تسليط الضوء عليهن لنقل الصورة الحقيقية لمنطقة بعلبك في مواجهة بعض التقارير الإخبارية التي لا ترى من هذا السهل سوى زهرة القنب (الحشيشة) كمشهد نمطي غير بريء ومسيء لسهل سمّي عبر التاريخ بأنه «إهراءات روما».

          اكتفاء ذاتي                                                                                             

تبدأ فاطمة شميس (شمسطار) بتحضير المونة مطلع شهر تموز، وللكشك حصته الأكبر على القائمة كونها تبيعه وزبائنها ينتظرون منتوجها منه في كلّ عام، وتقول: «ما زلت أحضّر الكشك كما كانت جداتنا تحضرنه، أيّ على الطريقة التقليدية القديمة، بحيث أقوم ببّله بالحليب والقليل من اللبن ولا «أكسره» كما هو سائد اليوم، في الماضي كانت النسوة يجتمعن «لفتِّهِ» ومن ثم «نخله» يدوياً، أما اليوم فبعد تيبيسه في الشمس أطحنه على المطحنة الآلية، ذلك لأن الأمر تبدّل وبات سريعاً، والكشك هو الشيء الوحيد الذي أبيع منه ولديّ زبائني، أما باقي المونة فهي زاد الشتاء مثل «المكدوس» و»المربيات» و»الكبيس» و»الباذنجان المتبل» والحبوب على أنواعها، وطالما أني قادرة على الابتعاد عن المعلبات والمواد الحافظة فذلك أفضل من الناحية الصحية».

أما أم علي (حزين) فهي تحضّر المونة ضمن إمكانياتها المحدودة مشيرة إلى أنّ أبناءها يفضلون كلّ ما هو بيتي على المنتوجات المعلبة، وتقول: «فصل الشتاء قاسٍ في منطقة البقاع ورغم وجود المحال التجارية والتعاونيات لكن المونة البيتية ضرورية، لذلك أعمل على تحضيرها في كلّ موسم، وأصعب شيء في المونة هو «المكدوس» حيث أنه يتطلب الكثير من الجهد بدءاً بسلقه وتجفيفه وتحضير حشوته وأخيراً حشوه، وأنا أسلقه على الحطب، وإذا تمكّنت من تصريف ما أنتجه من خلال البيع فهذا أمر جيد».

لكن إلى أيّ مدى تكون هذه التجارة مربحة، تجيب أم عليهي ليست تجارة مربحة ولكن تكفي نسبياً كنوع من اكتفاء ذاتي وأحياناً يكون المردود بمستوى الكلفة».

ترصف أم علي ما حضرته على رفوف في منزلها المتواضع آملة أن تتمكّن من تصريف جزء منه وإنْ لم يكن الموسم «حرزان» من الناحية الاقتصادية فتبقى هذه «الثروة الصحة» مخزوناً لها ولأبنائها في فصل الشتاء، مع تأكيدها أنها لا تشتري الخبز من الأفران بل تقوم بخبزه بنفسها وترى أنّ «اللقمة» فيها بركة إذا ما كانت مجبولة بعرق الجبين ودون أيّ مواد حافظة.

زر الذهاب إلى الأعلى