أمين معلوف… بين إشكاليات هوياته القاتلة ومتاهات اختلال عوالمه
محمد محمد الخطّابي
في 25 شباط الماضي، حلت الذكرى السابعة والستون لميلاد الكاتب اللبناني الكبير أمين معلوف، فهو من مواليد مدينة بيروت في هذا التاريخ من عام 1949. وفى عام 1975 انتقل للعيش في باريس التي ما يزال يقيم فيها حتى اليوم، ثم سرعان ما حصل على الجنسية الفرنسية، وعلى أكبر جوائز فرنسا الأدبية، وهي جائزة غونكور عام 1993 عن روايته «صخرة طانيوس». وفي 23 حزيران 2011 كان معلوف قد انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية العريقة، حيث احتل المقعد رقم 29 لخلافة كلود ليفي ـ ستروس، كما فاز كذلك بعدة جوائز أدبية أخرى منها: «بوكر الدولية» وجائزة دبلن الأدبية، وأمير أستورياس ـ العائدة لعام 2010 التي تعتبر من أهم الجوائز الإسبانية في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس في الآداب، إلى جانب جائزتيْ «سرفانتيس»، و«بلانيتا».
فى البحث عن الينابيع الجذور
ظل هذا الكاتب المسكون بالغربة والاغتراب زهاء عشر سنوات يبحث، وينقب في الوثائق والمراسلات العائلية، وفي سجلات الدخول والخروج من وإلى ميناء نيويورك لعله يقتفي آثار جده الذي كان معلماً وسياسياً وصحافياً، والذي كان قد جعل من مسألة النهوض بالتربية والحداثة ديدنه وهمه الكبيرين في حياته، ومن جراء هذا البحث والتنقيب الحثيثين والمتواصلين جاء كتابه «بدايات»، الذي يعتبر ترجمة أو سيرة ذاتية بليغة، أو حواراً حياً لرجل ينتمي إلى زمن آخر، والآن بفضل حفيده أصبح يعيش بين ظهرانينا وكأنه معاصرنا، عادت إليه الحياة من جديد». هذا الكتاب وسواه من أعمال معلوف مثل «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، و»ليون الأفريقي»، و»سمرقند»، و»صخرة طانيوس»، و»حدائق النور»، و»الحب عن بعد»، و»اختلال العالم»، بالاضافة إلى كتيب ذي صفحات قليلة يصب فيه جام غضبه وحنقه على سوط من سياط هذا العصرالمتمثل في «الهويات القاتلة».هذه الأعمال برمتها تعتبر الهوية الشخصية لهذا الكاتب.
وخلال استجوابٍ له مع الكاتب الإسباني خوان كروث نشرته جريدة «الباييس» الإسبانية، يقول معلوف: «إن الحروب التي عرفتها بلاده جعلته يصيح بصوت جهوري في معظم كتبه، أن العالم أصابه خلل ما، وبأننا نسير نحو مستقبل مشحون بالنزاعات والمرارة والتظلم والتفاوت والتباعد والحروب والمعاناة والفاقة والفقر». ويقول كروث من جهته في السياق نفسه إنه يستشف من كتب معلوف، خاصة كتابه اختلال العالم» صيحته بأن الغرب لا يحترم كرامة الإنسان، وأن نظرته هذه عن الاختلال الذي يعرفه العالم تثبط الهمم، وتخيب الآمال، وأن هذه النظرة ليس لها أي أصول أو دوافع ديماغوجية، بل إنها نتيجة وعصارة تجاربه ككاتب ومواطن، لبلدٍ ما انفك حبه له يتغلغل ويعتمل في داخله، سواء لماضيه أو لحاضره بتناقضاته، ومفارقاته، وصعوباته، والآمال المحبطة التي ليس من الهين واليسير بلوغها أو تحقيقها. إن لبنان أضحى لدى معلوف وكانه رمز حي، أو مجاز مأثور لديه يجسم أو يحدد نظرته للإنسانية.
عن كوبا وكاسترو وراؤول
يشير معلوف في كتابه «بدايات» إلى أن الحياة تنبثق أو تنبع من تتابع وتعاقب اللقاءات، وقد فكر في ذلك عندما كان في كوبا، باحثاً مقتفياً آثار جده الذي كان قد ذهب إلى هناك هو الآخر بحثاً عن أخيه، ويقول معلوف إن جده كان عازباً في ذلك الإبان. فمن يكون يا ترى هو اليوم لو فرضنا انه مكث هناك؟ ويقول معلوف عن فيديل كاسترو: على الرغم من أنه رجل مستبد، وهو يعرف هذا عنه قبل ذهابه إلى كوبا وخلال وجوده فيها، إلا أن الذي لم يكن يعرفه عنه قبل أن يزور هذه الجزيرة هو أن كاسترو ليس من عادته إطلاق اسمه على الشوارع المهمة، كما أنه ليس من عادته أن يرفع مجسمات أو تماثيل له في الساحات العمومية، ففي كوبا عندما يذهب الأخَوَان كاسترو وراؤول فلن تكون هناك تماثيل لهما لتدميرها. يقول معلوف إننا أصبحنا نعيش اليوم حضارة الفضائيات، لقد غدونا نتعب بسهولة، ونمل من كل شيء، وهو أمر غير مستحب ، وتصرف عارٍ من الحِكمة. ويقول إن قصته الشخصية هي قصة بيوت ومنازل مهجورة، وترحال دائم، وهو مازال يحتفظ بذكريات عن طفولته في منزل عائلته في تركيا حيث كان يعيش والده، ثم عن منزل والدته في مصر، حيث كانت تعيش مع عائلتها، ثم هجر منزله في لبنان. وعندما بدأ البحث عن عائلته هاجر إلى كوبا التي أمست هي الأخري أحد منازله المهجورة كذلك. وكان معلوف كلما استقر في منزل لمدة ما إلا وانطلق صوت أو هاتف من داخله يقول له لا تستقر لمدة طويلة في مكان واحد، فقد تكون مضطراً للرحيل من جديد.
ويصف منزل جبريل أخو جده في كوبا فيقول: إن هذا المنزل خلف في نفسه انطباعاً غريباً، فقد ظل مهجوراً زهاء سبعين سنة، وكان مؤثثاً على النمط الأندلسي، فسقوف المنزل كانت تقليداً دقيقاً لسقوف وأسوار قصرالحمراء في غرناطة، وكان الزليج الذي يكسو الجدران يصور فصولاً من رائعة سرفانتيس «دون كيشوت»، وهذا الديكور العربي الذي عنيت به عائلته يعكس مدى تعلقها بالحضارتين الشرقية والغربية على حد سواء. ويقول: إن بعض الكتاب يتعرضون في البداية إلى حياتهم الخاصة في كتاباتهم، ثم ينأون عن ذلك في ما بعد. إلا أنه في ما يتعلق به فالعكس هو الصحيح، ويعترف بأن هناك مظاهر من حياته تطفو على سطح كتاباته، كما هو الشأن في كتابه «ليون الأفريقي»، أو في كتبه الأخرى، وكان دائماً يتردد في الحديث عن عائلته بشكل مباشر، إلا أنه أصبح اليوم يدنو من ذلك، سواء في ما يتعلق بعائلته أو به شخصياً، ومن هنا طفق في الحديث عن أشياء حميمية أكثر فأكثر، إلا أن مييله وعائلته إلى الحياء والخَفر والحِشمة أكثر، ولهذا يعتريه التوتر كلما تطرق للحديث عن عائلته، أو عن والده، أو عن جده، وهو يشعر بأنه يُرغم نفسَه على القيام بذلك.
أزمة انتماء أم أزمة استلاب
ويقول أمين معلوف عن مسألة الهوية والأقليات: إنه وعائلته عانوا من هذه الإشكالية، وهم ينحدرون من أقليات، ولم يشعروا قط بأن فرنسا هي بلدهم، وأن هذا الشعور كان حاضراً معه باستمرار، كما أنه كان يعتري أفراد عائلته في المهجر. ويضيف معلوف أن لديه إحساساً بأنه خارج دائرة المجتمع الذي يعيش في كنفه، كان يشعر بذلك وهو في لبنان، ثم عاوده هذا الشعورعندما رحل إلى فرنسا، وحاول القول إنه جزء من هذا البلد الجديد الذي هاجر إليه، بل إنه يريد أن يكون طرفاً من هاتين الثقافتين، من الأمتين معاً، إلا أن ذلك لا يحدث في الواقع، إذ بالطريقة التي ينظر بها إليك الناس يتأكد لك أنهم يعرفون أصولَك وجذورَك، ويؤثر ذلك على الطريقة التي يتحدثون بها إليك، كما يؤثر على مكانتك في المجتمع، وعلى ما يمكنك قوله، وما لا يمكنك البوْح به، وعلى ما يمكنك فعله، وما لا يمكنك القيام به، وهو يشعر بأنه الآن أصبح من الصعوبة بمكان الاندماج أو الانتماء أو الانصهار أو الالتحام بشكل كلي في المجتمع، ذلك أن إشكالية أو هوَس الهويات أصبحت تزداد سوءاً وتعقيداً كل يوم في مختلف أنحاء المعمورة، وهذه الظاهرة أمست تدفعك إما إلى الإفصاح صراحةً عن هويتك الحقيقية أو أن تصمت!
الهويات بين التسامح والاحترام
ويقول أمين معلوف عن إشكالية التسامح الواردة في كتابه «الهويات القاتلة»، إن هذا الكتاب عندما قدمه الكاتب والروائي البرتغالي الراحل خوسيه ساراماغو في مدريد، كان كل منهما قد أعد ملاحظات لهذه الغاية، وكانت أولى النقاط التي سيتعرض لها معلوف خلال هذا التقديم تشير إلى أن عدم التسامح هو ليس نقيض التسامح، بل هو الاحترام، والغريب أن ساراماغو كان قد أعد هو الآخر الملاحظة نفسها، فالتسامح في نظره- لا يكفي ولا يفي، إذ هو موقف أو تصرف يمارسه الغالب على المغلوب، الذي ينبغي لنا قوله هو ليس أنا أتسامح معك ، بل أنا أحترمك ، أن تحترم الآخر، هو أن تعترف بالآخر، وأن تقيم نوعاً مغايراً من الصلة أو العلاقة معه ومع ثقافته، فمصطلح التسامح هذا كان مقبولاً ومستساغاً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أما الآن فإنه لم يعد يكفي، نحن مدعوون إلى أن نعي ونعرف بأننا نتقاسم الكوكب الأرضي، وأننا أناس نختلف في اللغات، والدين، واللون، والوضع الاجتماعي، وفي الجنسيات. الإشكالية الأساسية للقرن الواحد والعشرين هي كيف يمكننا أن نعيش جميعاً في انسجام ووئام في ما بيننا، وقليل من البلدان تواجه أو تعالج هذه المسألة بالجدية المطلوبة، والجدلية الصحيحة. وعما يجري في العالم من انعدام الاحترام في أريزونا نحو المكسيكيين، وفي باريس نحو الرومانيين، وفي إسبانيا وإيطاليا مع الأفارقة، قال معلوف إنه سيكون من السذاجة بمكان التفكير في أن طبع الكائن البشري هو قبول الآخر، بل إن موقفه التلقائي على امتداد التاريخ كان عكس ذلك، أي إبعاد وإقصاء الآخر، وهذا أمر ينبغي دراسته وتمحيصه، فقبول الآخر هو ليس بالأمر الهين اليسير، بل هو أمر صعب للغاية، ينبغي علينا مواجهته بجدية وباحترام، ومراعاة مشاعر الآخرين.
نظرة الغرب إلى العالم العربي
ويؤكد أمين معلوف على أننا عندما نتحدث عن العالم العربي، فإن كثيراً من الأشخاص في الغرب يبدو وكأنهم مقتنعون أن هذا العالم كان دائماً موسوماً بالتأخر والتقهقر، ويتسم بالتطرف والعنف، إلا أنه ينبغي ألا ننسى أن هذا العالم عرف قروناً وعهوداً من النقاش والحوار والبحوث العلمية، والتطور والنماء والفلسفة والترجمة، وهذا يعني أنه ليس من الضروري أن ما نراه اليوم هو من نتاج تلك الثقافة، والأهم من ذلك أن نعرف أن ما نراه فيها اليوم، من الحيف والشطط نسبته إليها، أو أن نقول إنه من صميم طينتها أو عنصرها، بل إن ما نراه اليوم هو نتيجة ظروف تاريخية معينة، فكل مجتمع ينتج أشياء مختلفة في فترات متباينة من تاريخه، وإذا كان هناك مجتمع مفتوح في ما مضى يقبل بتعدد الآراء، فليس أمراً مستحيلاً أن تنطبق عليه هذه الخاصية اليوم. ويضيف: أخشى أننا نسير نحو منحدرٍ سحيق ليس في مجال التطور التكنولوجي أو العِلمي، بل في التراجع الأخلاقي في مختلف أصقاع العالم، وأننا نسير نحو عالم تطبعه النزاعات والمشاكسات، وهوعالم مشحون بالمرارة والتظلم، والحروب، والمعاناة كل ذلك قد يقودنا إلى مزيد من الفقر والفاقة، إن هناك أشياء ليست على ما يرام، فهناك عالم مُعَوْلَم بشكل مبالغ فيه، إلا أننا لم نبلغ بعد العقليات التي تمنع بأن تشعرَ مناطقُ من العالم بأنها ما زالت مُبعدة ومهمشة، ينبغي أن نكون في مستوى التطور المادي الذي أدركناه. ويضرب معلوف مثلا للتكتل فيقول: إن أوروبا لا تستطيع أن تنهج هذا النمط السياسي، حيث يسلك كل بلد فيها سياسة مختلفة عن الآخر، ومع ذلك فهي تتوق إلى قارة موحدة، ينبغي أن يكون هناك شيء أشبه بالولايات المتحدة الأوروبية، وهذا ليس حلماً، فالعقليات لا تتواكب، ولا تتماشى والتطورات التي يشهدها العالم في مختلف الميادين الاقتصادية والعلمية والمادية والتكنولوجية، إنهم يدفعوننا، ويدعوننا إلى الاندماج، إلا أن عقلياتنا ما فتئت تعرقل مسيرتنا في هذا الاتجاه. وعن إسبانيا على وجه الخصوص- يقول أمين معلوف: «ينبغى للناس في هذا البلد أن يضيفوا إلى هوياتهم الحالية الخاصة كل تلك العناصر التي شكلت الهوية الإسبانية المتوارثة. فلإسبانيا ماضٍ روماني، وماضٍ فينيقي، والماضي الذي تألق فيه الحضور العربي، وهو كذلك بلد الاسترداد، بلد الحواري سانتياغو دي كومبوستيلا، بلد اكتشاف أميركا، إسبانيا هي كل هذه الأشياء، وثراؤها يكمن في تحمل مسؤوليتها، واحترامها وحبها، وتقبلها، وهضمها لكل حقب وفترات تاريخها».
كاتب وباحث مغربي