دولة الرئيس المقاوم

أسامة العرب

ترأس الحكومة ثمانية أعوام، ومثّل العاصمة في المجلس النيابي ثمانية أخرى، وما زال حتى اليوم يقطن في بناء قديم عمره من عمر الاستقلال، نعم، هذا هو رئيسنا الشريف الدكتور سليم الحص، الذي نعتزّ به ونفتخر.

منذ أن تولى رئاسة حكومته الأولى طالب الرئيس الحص بذكر موضوع إلغاء الطائفية في الإدارة والقضاء والجيش في البيان الوزاري، إلا أنّ البعض سارع إلى إحباط مساعيه مردّداً أنّ إلغاء الطائفية في لبنان وهم، وقد تناسى هذا البعض مهمّاته الوطنية بالسعي إلى إخماد الفتن وزرع روح الشراكة والمواطنة والمحبة بين نفوس اللبنانيين، فكان الرئيس المسلم الوحيد الذي يسارع من تلقاء نفسه للتوقيع على مرسوم لاطائفي يقضي بتعيين أربعة عشر قاضياً فازوا في الامتحانات القضائية، منهم أحد عشر مسيحياً وثلاثة مسلمين فقط، إيماناً منه بأنّ هذه الخطوة هي الخطوة الطبيعية الأولى التي كان يتعيّن عليه أن يتخذها، لإثبات مدى جدّيته في إلغاء الطائفية السياسية، لا سيما قاعدة «ستة وستة مكرّر».

إيماناً منه بوحدة لبنان، حارب كافة مشاريع اللامركزية السياسية مؤكداً أنها باب رئيسي للتقسيم وأنها تعطّل استمرار لبنان الواحد، كما تقدّم بمشروع قانون يلغي الطائفية تدريجياً، ولكن على أساس النسبية ولبنان دائرة انتخابية واحدة، فكانت فكرته أن يُصار إلى انتخاب تسعين في المئة من النواب على أساس طائفي، وعشرة في المئة فقط على أساس لاطائفي، وبذلك يكون قد فتح ثغرة ولو ضيّقة في جدار الطائفية البغيضة، على أن يُصار إلى رفع هذه النسبة تدريجياً مع الدورات اللاحقة. إلا أنّ سائر السياسيين كالعادة أضاعوا مشاريعه الإصلاحية الواحدة تلو الأخرى، حتى أنهم لم يتجاوبوا مع أفكاره الإصلاحية التي تتعلق بمسألة الكتاب المدرسي الموحّد، وخاصّة كتاب التنشئة الوطنية والتاريخ الداعي إلى توحيد فكر النشئ وبناء المواطنة السليمة وتنمية الولاء للوطن والدولة.

إيماناً منه بعروبة لبنان، كان يردّد دوماً أنّ العروبة، وقبل أن تعني وحدة العرب، فإنها تعني من دون أدنى شك وجوب تبنّي كلّ قضاياهم وفي مطلعها قضيتهم المركزية فلسطين، كما تعني أيضاً وجوب إقامة أفضل العلاقات مع كافة الأشقاء العرب، لا سيما شقيقتهم الأقرب سورية. وهو يؤكد أنّ فلسطين هي قطب الرحى للعالم العربي، فإذا ما انتهت انتهت الأمة العربية والإسلامية، وهذه معادلة خطيرة لطالما حذر منها، رافضاً منطق التسويات المطروحة، ومعتبراً إياها مشاريع عقيمة.

من هذا المنطلق، كان إيمانه الراسخ بأنّ المقاومة هي واجب وطني وقومي وأخلاقي في آن، فهي واجب وطني لأنها تحرّر لنا أرضنا المحتلة، وتواجه عنّا كافة الانتهاكات «الإسرائيلية» المتكرّرة على أرضنا وفضائنا ومياهنا الإقليمية، وهي واجب قومي وأخلاقي أيضاً لأنّها تغيث شعبنا الفلسطيني المستضعف والمضطهد من قبل سلطات الاحتلال الصهيونية، وتساند المقاومات الفلسطينية في مشروعها النضالي في تحرير أرضها. ولهذا وقف إلى جانب المقاومة الوطنية والإسلامية فدافع عن المجاهدين وعن المقاومين، كما وجه كتاباً مفتوحاً إلى الرئيس بوش يصفه فيه بالإرهابيّ، وهبّ أيضاً لمحاولة تأسيس موقف وطني جامع داعم لحزب الله ولحقّ لبنان بالدفاع عن أرضه مؤكداً للعالم أجمع أنّ حزب الله حزب لبناني وطني، عربي وإسلامي، لا سيما أنه يمارس حقاً شرعياً باستكمال تحرير ما تبقى لوطنه من أرض محتلة صهيونياً، وواجباً قومياً ودينياً بالدفاع عن قضيته المركزية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، مؤكداً أيضاً أنه لا يجوز لمن دعم القضية الفلسطينية مُلحِقًا الهزيمة بالعدو وأصبح قوّة رادعة أن يُوصف بالإرهاب، ذلك أنّ مثل هذا القرار لا يخدم إلّا عدوّ الأمّة وعدو فلسطين ويزيد من الهوّة والشقاق الذي يتحكم بأمّتنا العربية.

نذر عمره للوطن ولفلسطين ولا يزال، ولذلك حارب كافة السياسات الصهيوـ أميركية الاستعمارية، مؤكداً أنّ مخططات التقسيم الجديدة التي تعدّها أميركا للمنطقة سوف تنقلب عاجلاً أم آجلاً عليها، وأنّ العرب والمسلمين يجب أن يواصلوا دعمهم لفلسطين مهما كان الثمن، ويجب ألا يتخلوا أبداً عن واجبهم القومي والأخلاقي بالصمود والتصدّي والتحرير، ذلك أنّ خيار الدفاع عن فلسطين هو خيار كلّ عربي وكلّ مسلم وكلّ طني وقومي شريف وصادق وأمين.

لم يطلب الرئيس الحص في أيّ يوم من الأيام شيئاً لنفسه، لا من السياسيين ولا من الدول الشقيقة، ولا استغلّ علاقته للتقرّب منهم ولا لنيل مركز أو مكسب مادي. بل على العكس من ذلك، كان يحاول أن يستفيد من تقديرهم له واحترامهم لنزاهته واستقامته، مسخراً ذلك لصالح العمل العام، ولإخماد النعرات الفتنوية الطائفية والمذهبية التي يعمل البعض على إثارتها لتحقيق مكاسب دنيوية رخيصة.

لهذا فإنني أفتخر بأنّ مسيرتي الطويلة مع الرئيس سليم الحص علّمتني أموراً كثيرة: علّمتني كيف أكون فقيراً فأعتزّ وأفتخر، وكيف أكون عروبياً فأقاوم وأحرّر، وكيف أكون وطنياً فأنبذ الطائفية والمذهبية البغيضة، وكيف أكون مسلماً حقيقياً فأحارب الإرهاب التكفيري والصهيوني وكافة أشكال العنصرية، لا سيما العرقية منها.

ولكن حين أخفق الرئيس في الفوز في انتخابات بيروت عام ألفين نتيجة عوامل عديدة، أهمّها مواقفه الوطنية والقومية اللاطائفية واللامذهبية، وكذلك انحراف الإعلام والمال السياسي، تيقّنت بأنّ للنزاهة في وطننا ثمن، وللوطنية ثمن، ولنبذ الفتن الطائفية والمذهبية ثمن، ولبغض المال الحرام ثمن. فكم من السهل أن نبيع مبادئنا وقيمنا لنتبوأ المناصب والمراكز، وكم من السهل أن نبيع آمال الناس وأحلام الفقراء والمساكين لنجمع الثروات ونرتكب المعاصي والآثام، وكم من الصعب أن نكون أحراراً شرفاء لنقاوم ونحرّر الأوطان ونتبنّى كافة قضايا الأمة المُحقّة.

نعم، سليم الحص حفظه الله، رجل العزة والكرامة، الأستاذ الجامعي ورئيس الوزراء لخمس مرات والوزير والنائب مرات ومرات عديدة، لم يفُز عام ألفين في الانتخابات وله الفخر بذلك! أتعلمون لماذا؟ لأنه مقاوم بامتياز، لأنه لم يركع للضغوط الصهيوـ أميركية، لأنه لم يتخلّ عن قضية العرب المركزية فلسطين، لأنه آمن بأنّ مدخل العروبة يمرّ حتماً بدمشق، لأنه ثمّن مواقف سورية وإيران ودعمهما للمقاومة الوطنية والإسلامية لتحرّر وطنه، لأنه اعتزّ بانتصارات المقاومة المتكرّرة على الاحتلال «الإسرائيلي»، لأنّ كفّه نظيف، لأنه بحقّ ضمير لبنان وفلسطين معاً! شاء من شاء وأبى من أبى!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى