الأتراك في طهران… هل هي مناورة تكتيكيّة؟

هشام الهبيشان

في البداية، يُخطئ كلّ من يظنّ أنّ العلاقات التركية ـ الإيرانية، ستُصيبها انتكاسة كبرى بمجرّد تقرّب أنقرة من الرياض، أو بمجرّد إنجاز إيران لاتّفاقها النووي، فليس هناك ما يدعو إلى القلق في دوائر صنع القرار في كلّ من طهران وأنقرة بشأن احتمالات تدهور العلاقات الإيرانية ـ التركية، رغم اختلاف وجهات نظر البلدين، سواء في العراق أو في سورية أو في اليمن، والسبب بذلك أنّ هناك في النهاية حالة من تقاطع المصالح بين الاستراتيجيّة الإقليميّة الإيرانيّة والاستراتيجيّة الإقليميّة التركية، والدليل هنا أنّ إيران دعمت مساعي تركيا في فترات سابقة لاحتضان اجتماع مجموعة 5 + 1، للتفاوض مع طهران بشأن الملف النووي الإيراني، ومع أنّ البعض ما زال يراهن على تفاقم الخلافات بين البلدين، بالنظر للتباعد في التوجّهات الاستراتيجية بين تركيا حليفة أميركا والفاعلة في حلف شمال الأطلسي، وإيران العدو اللدود إلى حدٍّ ما لأميركا وللغرب عموماً وحليفة موسكو، إلّا أنّ جميع المؤشّرات الواردة من طهران وأنقرة، تؤكّد عكس هذه الفرضية وهذا الرهان، فحجم المؤشّرات الاقتصادية لحجم التبادل الاقتصادي والتجاري وصل في العام 2014 إلى حدود 17 مليار دولار بين البلدين، والمتوقّع أنّه كسر حاجز 19 مليار دولار للعام 2015، ومن المتوقع أن يتجاوز حاجز 25 مليار دولار للعام الجاري 2016، كما أنّ الأتراك يستفيدون بشكل ملموس من الغاز والنفط الإيراني الذي يتدفّق إلى أنقرة وسيتدفّق منها إلى العالم الغربي قريباً، كما أنّ الزيارات المتبادلة بين زعماء ومسؤولي كلا البلدين بالفترة الأخيرة، تؤكّد حجم التنسيق السياسي والأمني بين البلدين.

ومن هنا، يمكن قراءة أنّ حجم العلاقات والمصالح الاستراتيجية لكلا البلدين، وحجم الزيارات المتبادَلة للمسؤولين الإيرانيين والأتراك يمكنها بأيّ مرحلة أن تُساهم بتقريب وجهات نظر الطرفين، وتكسر كلّ الرهانات على حصول انتكاسة بالعلاقات بين البلدين. وهذا بالطبع سيتمّ دون التأثير على استراتيجية كلّ بلد في المنطقة العربية والإقليم ككلّ، رغم أنّ هناك اختلافاً في تعاطي أنقرة وطهران في التعامل مع الحرب على الدولة السورية، ولكن هذا لا يُنكر أنّ هناك تنسيقاً وتبادلاً للزيارات ووجهات النظر بشأن هذه الحرب بالتحديد، وفي ذات الإطار لا يمكن للنظام التركي، في الواقع، أن يتبع سياسات إقليمية جديدة، يتمّ من خلالها فكرة إنهاء التقارب مع إيران، لأنّ النظام التركي يُدرك أكثر من أيّ وقت مضى أنّ إيران واحدة من أكبر قوى الإقليم الفاعلة، إنْ لم تكن هي القوة الأولى في الإقليم، وخصوصاً بعد أن نجحت بتفاوضها مع القوى الدولية حول ملفّها النووي. وبالشقّ الآخر، فالإيرانيون كذلك يدركون حجم القوة الاقتصادية والعسكرية للأتراك، ويعلمون أنّها هي البوابة الأوسع لطهران للانفتاح على الغرب مستقبلاً اقتصادياً وسياسياً، ويسعون لبناء وتجذير وتوسيع حالة الشراكة القائمة مع الأتراك في هذا الاتّجاه، غير أنّ هذا الانتفاع المتبادل، والتفاهم الظاهر، بين أنقرة وطهران لا يُخفي حجم التنافس بين البلدين على قيادة المنطقة، ولعلّ الحرب المفروضة على الدولة السورية قد كشفت عن جانب من التباين بين البلدين، والرغبة في احتلال موقع الدولة القائدة والفاعلة في الأحداث، فقد رمت تركيا بكلّ ثِقَلها ضدّ الدولة السورية، فيما تسعى إيران بكلّ قوة للدفاع عن الدولة السورية.

وما يدفع الأتراك أيضاً لتعميق التقارب مع إيران أو مع بعض الدول العربية الخليجية ومع الكيان الصهيوني، رغم الحديث عن تشكيل حلف سعودي تركي «إسرائيلي» لمواجهة تمدّد إيران في الإقليم، هو حجم التحدّيات التي تواجه الأتراك فقد بات حلم تركيا بأن تكون واحد من أعضاء دول الاتحاد الأوروبي وهم أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، وعلينا أن لا ننسى أنّ تركيا بالفترة الأخيرة بدأت تُعاني عزلة إقليمية وضغوط دولية بعد فشل الرهان على الإخوان في مصر، وعدم حدوث اختراق في الملف السوري التي كان لها نفوذ كبير فيه بدعم المعارضة السورية «المعتدلة أو الإرهابية»، التي تأكل جسدها السياسي والعسكري بشكل كبير بالفترة الأخيرة، وبشقّ آخر رفضها للمشاركة «الفعلية» بالحلف الغربي ـ العربي لمحاربة تنظيم داعش، فتح عليها جبهة دولية جديدة. ومن هنا، خسارة تركيا لهذه الملفات والشكوك حول دورها في المنطقة، وبعد خسارة تركيا أردوغان ملفات المعارضة السورية وأخوان مصر، فقد أدّت، هذه الخسارة، إلى إعادة دراسة تركيا لسياستها الإقليمية، وهذا ما دفع بالأتراك مجدّداً لتعميق حالة الشراكة مع الإيرانيين حتى وإن كانت ملفات هذه الشراكة تتمّ خلف الكواليس، وهذا ما ساهم مرحلياً بإذابة قطع الجليد التي تغطّي سقف العلاقة بين أنقرة وطهران، مما ساعد نوعاً ما في إطفاء فتيل حرب باردة كانت على وشك الاشتعال من خلف الكواليس بين أنقرة وطهران.

وبالعودة إلى موضوع تقارب أنقرة والرياض وتأثيره على علاقات أنقرة وطهران، فبعض المتابعين يقرؤون، أنّ اقتراب أنقرة من طهران والرياض بشكل متزامن، يشكّل حدثاً كبيراً في صياغة النموذج الجديد للمنطقة، خصوصاً بعد اختلاف مجموع هذه العواصم على رؤى الحلول للملفّين الأكثر سخونة، وهما ملفّا مصر وسورية بالتحديد، البعض يقرأ أنّ الأتراك بعد فشل رهانهم على مصر وسورية بدؤوا بإدراك أنّ المرحلة الحالية لم تعدْ تحتمل أن يتموضع الأتراك بعيداً عن الإيرانيين والسعوديين، رغم معرفة الأتراك بحجم العداء المطلق بين الرياض وطهران، ولكن الأتراك ليس لديهم حل وسط، فهم مجبرون على الشراكة مع كل قوى الإقليم لاستعادة مكانة تركيا بالإقليم المضطرب.

كاتب وناشط سياسي ــ الأردن

hesham.habeshan yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى