عصام الغازي وقفة عز مصرية تأبى الغياب: السمَّان وخشبة والألفي والقصاص والأتات والسالم ومحادين يتذكَّرون

هاني الحلبي ــ «البناء»

بمسؤولية مصلح فتح الشـــــــاعر الراحل عصــــــام الغـــــــــــازي الملفـــــات المسكوت عنهــــــا في الواقع العـــــربي كاشفاً أن العرب فاقدو المنــــاعة المكتســـبة وحكّامهم يتواطئون على تحكم مفاسد مدمرة، منها رعاية التفاوت الحقوقي الاجتماعي النفسي بين المواطنين وإذلال رجالاتهم ليكون مصداقاً للقاعدة التأسيسية «أن الشعوب الغبية تفعل برجالها كما يفعل الأطفال بدماهم، تحطمهم وتبكي طالبة غيرهم».. وبعد فوات الأوان!

ففي مقابلته التي قررت جريدة البناء نشرها بعد دورانها 6 أشهر على وسائل إعلام فلم تجرؤ على نشرها، فضح فيها المستور.

«البناء» قررت النشر بمسؤولية لوعي القسم الثقافي فيها رسالته، ولأننا لسنا أتباع سلطان أو رئيس أو ملك أو سماسرة كلمة وصورة ونشر، بل مؤسسة إعلام عريقة تعي أن الصحافة علم قومي اجتماعي وسلاح قومي اجتماعي..

وتقديمي للمقابلة جعلت الشاعر الكبير بعد النشر يقول «إن الحوار مهم وتدخل الصحافي هاني الحلبي زاده أهمية وغنىً»..

لم تمض ساعات حتى تكاثرت الضغوط على الغازي واتسعت، فاضطرت الزميل الراحل أن يسحب المقابلة عن صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، لكن الضغوط أصابت في روحه جرحاً فاستسلم قلبه وتوفي غصصاً.

عصام الغازي قتلته تهديدات العبيد، لكنك أوقدت جمرك الأخير ونحن نشعل منه غابات عبودية عفنة.

بعد وفاة الشاعر تساءلنا ماذا نفعل وفاء، فتشاورت والزميلة الشاعرة والناقدة السورية غادا فؤاد السمان، واتفقنا أن تهتم بإعداد محور عن الراحل يكتبه زملاؤه ورفاق مسيرته. لبّوا فوراً ووصلتنا عشرات المقالات اخترنا منها باقة للنشر هنا. نأمل أن يرى الباقي منها نور النشر..

ولم نقم بترتيب خاص للنشر. فكل من اهتم هو موضع تقديرنا واهتمامنا وحبّنا. ربما رغبنا بالتنوع قدر الإمكان لإعطاء فكرة عن مروحة معارف الشاعر عربياً، في ميادين الصحافة والسياسة والشعر والوطنية.. فكانت باقة من مقالات للكاتبة والشاعرة السورية ورئيسة تحرير مجلّة إلّا الألكترونية غادا فؤاد السمان، الدكتور ناجي خشبة، الروائية الكويتية فوزية شويش السالم، الدكتور والشاعر ربيع الأتات، الصحافي والكاتب المصري محمد حسن الألفي، الشاعر والكاتب المصري جمال القصاص والمحامي والكاتب الأردني وضّاح محادين..

عصام الغازي لروحك الرحمة ولأصدقائك وأسرتك والشعر وصاحبة الجلالة العزاء والسلوان.

مَن قتلَ الشاعر «عصام الغازي»..؟!

غادا فؤاد السمّان

لا أعلم من أين أبدأ من زيارتي الأولى لمصر العربية، عندما دخلت مدينة القاهرة للمرّة الأولى آمنة مطمئنّة في العام 1991، فور إعلان إعادة العلاقات السورية المصرية الوطيدة بين البلدين، حاملة معي إصدار ذات اليمين «وهكذا أتكلّم.. أنا» وإصدار ذات اليسار «الترياق» وأنا التي أختال بينهما شاعرة لا يشقّ لها فاصلة أو نقطة أو تعجّب. حينها دخلت الإعلام المصري من الباب العريض. أهم النقاد كتبوا عن تجربتي الشعرية وأهم الصحافيين التقوني، وأنا فارسة من فارسات الأبجدية أحمل أدواتي بمهارة استفزّت الجميع لحواري وكان من بين هؤلاء، الشاعر الصحافي الكبير «عصام الغازي»، رحمه الله، وقد أوكله في حينه للقائي الصحافي والإعلامي المعروف «عماد الدين أديب» صاحب مجلّة «كلّ الناس»، من الوهلة الأولى تعمّدت استفزازه، فبهرني لطفه ولجمتني دماثته وحدّتْ من اندفاعاتي لباقته المبهرة. علمتُ أنّ المناورة معه خطّة فاشلة لا بدّ من استبدالها على الفور. كنت في حينه واقعة تحت تأثير موجة المصطلحات الفلسفية وأكتنز كغيري بشيء من الببغائية بمعظم الأسماء العالمية التي ساهمت بصناعة الفكر والأدب والثقافة والمعرفة بمختلف مدارسها وتياراتها، وأحتفظ ككل «الريكوردورات» بهوامش موسّعة من أقوالهم وأفعالهم وخصالهم كذلك، حتى أبدو، كما كان يحرص الجميع، مثقّفة استعراضية من طراز النخبة. كان «عصام الغازي» محاوراً تلقائيّاً يأبى الأفكار المنقولة البائتة، وصار يستنبط مني أفكاراً تخصّني غير منقولة إلا من ذاتي وتجربتي، وكانت فرحتي لا توصف. فلأول مرّة أشعر أنّ أعماقي تربة خصبة جاهزة للاستصلاح، استأنستُ للأنا التي أخرجها مني بكامل جاهزيّتها النرجسية، وقال: أنت لو لم تكوني شاعرة لكنت شاعرة! واسترسلت وكأنني أوّل متحدّثة على سطح الكرة الأرضية حديثاً طويلاً جداً، لم يشطب ولم يشجب منه سطراً أو يستثني جملة زائدة، بل أسفر الحوار عن أربع صفحات، تركت أصداء واسعة في مختلف الأوساط، ومع تعاقب كل إصدار كان لي زيارة لمصر الحبيبة، وكان عصام الغازي، أول صديق أهاتفه، وكان يحرص في كلّ زيارة أن يسلخ مني الأفكار الجاهزة ويعتصر شراييني بصدقه النبيل الذي كما كتب عني أنّي شاعرة بفئة دم من الصدق الجميل، انقطع التواصل بيننا في 2005 بعدما غرقت أنا ولبنان بسلسلة من الإحباطات تراكمت علناً حتى ملأت الشوارع في 2016. في الـ 2013 دخل الشبكة العنكبوتية، وشعرتُ أنني على متن الأثير ألتقي بصديق عزيز سارعت بتحيته تحيّة حميمة، فردّ عليّ بأحسن منها، وظلّ من أصدقاء التواصل القلائل جدّاً جدّاً الذين لا يتواصلون على غرار غيرهم من المدّ والجزر والاستراتيجيات المدروسة لغايات في نفس يعقوب التي باتت مكشوفة بجميع الحيل الممكنة، وظلّ من المخلصين لحروفي ولمعظم ما أنشر، إن لم أقل لكل ما أنشر، وكنتُ أوثّق معرفتي بصديقي عصام الغازي يوماً بعد يوم، فكان ناصريّاً بمنطق وموضوعية ووعي وإدراك وأهداف ومسؤولية والتزام حقيقي، وكان مخلصاً لعروبته وقوميته وللشقيقة سوريا التي يعتبرها حتى كتاباته الأخيرة هي دولة الاتّحاد مع مصر، كان يرفض التطبيع مع إسرائيل بجميع أشكاله، ويرفض الاعتراف بدولة إسرائيل، ويحلم بتحرير فلسطين واستعادة الأقصى مهما طال الزمن وتكالبت المؤامرات. كان يرفض السفارة الإسرائيلية الخبيثة المغروسة كنبت شيطاني في خلايا القاهرة النقيّة، وفي الشهر السابع من السنة الفائتة 2015 تمخّض الأثير عن إلّا مجلّتي الألكترونية، بفضل الله وبعض الجهود ودعم «nazal group» وكتبتُ إليه مستنجدة بمزيد من الدعم وبدأتُ ديباجة انعدام المكافآت لانعدام التمويل، لم يترك لي أيّ متّسع للإرباك والحرج بكرم أخلاقه ورقي روحه، قال: يكفيني أن أستعيد حماستي ورغبتي للكتابة أنا الذي توقفت منذ خمس سنوات، متقاعداً من كلّ شيء، وكانت حماسته تتزايد مع إضافة كمية أوفر كلّ أسبوع من الإلحاح لملاحقة النشر. وعندما بدأتُ أتنبّه لمسيرته الفكرية مع الأعلام في الأدب والسياسة والفن والثقافة، اقترحتُ عليه، كتابة سلسلة من المذكرات، عن لقاءاته التي لا تُحصى مع العمالقة، وراقت له الفكرة وبدأ بتدوين المذكرات، حلقة تلو الأخرى وكنتُ أتمنى أن تكتمل السلسلة ليأتي يوم وأسعى لطباعتها بكتاب يكرّس سيرته الناصعة وبصمته في مجلّة إلّا – التي كان لها شرف بصماته حصريّاً. كان بمنتهى الالتزام بمنتهى الصدق بمنتهى الفصاحة والثقة والعمق والتمكّن، كنت أستشيره من وقت لآخر بقواعد النحو والصرف وهو الضليع فيها فيثني على سليقتي وسجيّتي ويحضّني على إيلائها الثقة. أحياناً كنتُ أشغله ببعض المواضيع ليتحمّل معي وزر الأحكام المطلقة لإعدامها أو لنشرها، ولم يتأخر في تقديم الرأي والنقاش حتى وهو بأشدّ الأعراض المرضية شراسة، وتبدّت إلى ذهني قناعة جديدة بضرورة إجراء حوار شامل يلخصّ مسيرته الطويلة، وبقينا وقتاً لا بأس فيه ونحن نضيف للحوار تباعاً أسئلة وآفاقاً جديدة تولى تنسيقها بيني وبينه بحكم انشغالاتي، الصحافي العزيز «زاهر قضماني»، انتهى الحوار الذي أسفر عن 3600 كلمة، حاولت التفاوض مع الشاعر الصديق الودود «لامع الحرّ» وهو من الأصدقاء الخلّص في لبنان والشعراء الأنبل في المنابر، ولم يخفِ استهجانه لحجم المقابلة، وسألني هل تلمّحين لاحتلال «الشراع» بمجمل أبوابها، ابتسمت بغباء مصطنع على أمل تنفيذ الاحتمال، فكان الاقتراح الإبقاء على ثلث الحوار، ليقينه أن استحالة النشر في أيّ منبر بديل.

وكانت «البناء» بترتيب من الصحافي الكريم «هاني الحلبي» أيقنتُ أن الحوار قد أصبح في يد نبيلة، ونسيتُ التذكير بموعد ما، ونام الحوار في البناء وبعهدة الصحافي العزيز الحلبي إلى أسبوعين خليا، ولم يعد في ذهني سوى إعداد الحوار للنشر في البناء وكان تأمين صفحة كاملة ليس بالأمر اليسير، لكنه وبقليل من المشاورات مع المشرف العام الأستاذ «ناصر قنديل» كانا أكرم من إلحاحي بكثير، ولم أخبر الصديق الشاعر عصام الغازي أيّ تلميح بل انتظرت صباح السبت 27/2/2016 حتى أرسلَ له صورة عن الصفحة، وأنشرَ رابط الحوار على صفحتي في «الفيسبوك» بالمشاركة معه، وكم أسعدني ردّ فعله المتواضع، حتى بادرني بالاتصال على الهاتف رافضاً المجانية بجميع السبل الشائعة، وأغدق الشكر والثناء على المفاجأة وعلى كرم البناء وعلى جهد العزيزين هاني الحلبي وزاهر قضماني وعلى جهدي في ترتيب الأمور ووضع الشكر مع الرابط على صفحته بشكل علني موسّع.

تهافت على قراءة الحوار الكثير الكثير من أصدقائه وعبّر معظمهم عن غبطتهم واعتزازهم بالشاعر الصديق، لكنّ القلّة استبدّ بهم الحقد والغيرة وضيق العين، فراحوا يتصيّدون له ما خلف السطور، ويحمّلون نياته المخبوءة ما لا تحمل أو تتحمّل من أوزار، وصلتْ ببعضهم بالتهديد برفع دعوى قضائية عليه بسبب ما جاء في الحوار، وما إن حلّ المساء حتى بلغ بأحدهم الاتصال به وتهديده بالسجن إن احتفظ برابط الحوار على صفحته، فأرسل لي البارحة صباحاً يعلمني وبأسف وأسى وغصّة أنه أضطر آسفاً «لحذف» رابط البناء على أن يعاود النشر في وقت غير معلوم، هدّأتُ من سخطه أنّ الحوار يخصّ القارئ اللبناني خصوصاً والعربي عموماً، فلا بأس إن تخطَّى المصري لأيام معدوداتٍ، ورغم محاولتي بتمييع الحدث عاود الكتابة إليّ وعبّر عن غضبه بإفساد متعته في تلقّي النشر الذي اعتبره في صفحة البناء مرآة ناصعة تختصر له سيرة حياة بمراحل متتالية، وتعمّدت الاستهانة في ما حدث بشيء من التمادي لئلا يوليه من ذهنه وأعصابه وقلبه العليل، لكنني أخفقتُ حتما إذ لم تمض 20 ساعة على آخر رسالة تلقيتها منه يذكّرني بالتزامه مذكراته في إلّا – :

«غادا العزيزة.. أنا الآن رهن العلاج، وسيكون أول شيء أفعله حين أتحسّن هو الكتابة لـ- إلّا – العزيزة التي وحشتني كثيراً ووحشني فيها حضوري ومذكراتي.. تحياتي لكِ دائما و ل إلّا «.

كنتُ أرتجف وأنا أنسخ آخر رسالة تلقيتها مساء البارحة فقط معتذراً لـ إلّا التي كانت موعودة منه بالكثير، ليأتي عصر ذات يوم من الأسبوع الماضي بالخبر الفاجعة.

رحل عصام الغازي، رحل قبل أن يطمئن على مصر التي يهوى، وعلى سوريا التي يحب، وعلى لبنان الذي يخشى عليه، وعلى ليبيا التي يقلقه ما آلت إليه فيها الأمور من تدهور وتمزّق وانسلاخ، وعلى العراق الذي يجلّ تراثاً وفنوناً وحضارة، وعلى فلسطين شعباً وأرضاً ومقدّسات، وعلى اليمن من الخراب والدمار والمجازر والمناحرات المذهبية.. رحل وبصماته تملأ الأثير وتملأ وجدان كلّ مَن عرفه عن قرب.

شاعرة وكاتبة سورية ورئيسة تحرير مجلّة إلّا

الألكترونية illa-lazina.com – بيروت

لمَ تركتني وحيداً؟!

د. ناجى خشبة

حتى عالمك ا خر تصرّ على طرق أبوابه ليلاً ما هذا العشق المخلص لليل؟ حتى مقرك ا خير تُصر على رسم مشهده كقصيدة شعر ما هذا العشق المخلص للشعر؟ ولماذا حدثتنى ليلاً؟ هل كنت تواسيني في زوجتي أم كنت تعزيني فيك؟ وقصيدتك التي كتبتها منذ أكثر من خمسين عاماً لماذا تذكرتها وأنت تحدثني؟ حبيبتي أنا حزين/ لأن سترتي حزينة.. فتشت في جيوبها فلم أجد سوى حجاب/ وعلبة بها ثقاب.. واليوم عندي جلسة وسط الصحاب/ كي نبحث السياسة.. ونقرأ الشعرا.. فكيف يا حبيبتي سأدفع المهرا/ نعلي مرتق وجوربي لو تعلمين. حبيبتي لنفترق. إني حزين.

كنا في المرحلة الثانوية وكنا أفقر من على وجه ا رض، وكنا نحبُ ونعشق، ونحلم ونقلق، وكم كانت مدن أمانينا جميلة وراقية، زرعناها حباً ورويناها عرقاً، وبنيناها أملاً. على كلمات رامي خططنا شوارعها، وعلى صوت أم كلثوم جمّلنا مبانيها، وبحماسِ عبد الناصر جاهدنا وحفرنا الصخر كي تصبح أمانينا حقيقة، وكنت الوحيد في جيلنا الذي امتهن المهنة التي يحبّها أما نحن فقد جنح بنا النظام التعليمي إلى مهن لا نعرفها ولم نحلم بها. فصرت شاعراً وكاتباً كما أحببت وكما تمنيت، كم كانت فرحتك طاغية عندما صدر أول دواوينك «وقائع موت الجياد» وكم كنتَ راضياً وواثقاً عندما صدر كتابك «الراقصون على الجمر». أكاد أذكر مقدمته كلمةً كلمةً ولدى جهاد عندما يتفتح وعيك مع السنوات ا ولى من القرن الحادي والعشرين لا تنظر خلفك بغضب ولا تفقد ثقتك في الجيل الذي حرر مصر من ااستعمار وبنى السد العالي، وخاض معارك الكرامة. تفاءل واندفع باتجاه المستقبل وتذكر دائما أنك مصري تنحدر من صلب مينا وامنحتب وأحمس ومزبتاح. كم كنت شجاعاً وأنت تلتقي علي صبري وكمال الدين حسين ونجيب محفوظ وحسين الشافعي وعمر التلمساني؟ ألم تقل عنه «من التانجو في عماد الدين إلى زعامة ا خوان المسلمين» وكم طرنا معك في سماوات الحب والعند مع الخال ا بنودي وكم زلزلت كياننا مع كلمات سميح القاسم منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي. في كفّي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي؟ وكم فاضت دموعنا معك ومع كلمات أمل دنقل.

عصام.. اعذرني.. كياني متزلزل ودموعي فياضة.. انتظرني علنا نشعل في الدرب حكاية.

أستاذ إدارة ا عمال – كلية التجارة – جامعة المنصورة – مصر

تتهاوى الجياد على وقع رحيلك

د.ربيع الأتات

لا يبقى منا سوى ما قدّمناه من حروف أرواحنا في خزائننا الصدئة، فكم قصيدة أو موقفاً سيظل صداهما يُزهِر

في حدائقنا الخلفية؟ سؤال لا بدّ منه بعدما ترجّل الشاعر الفارس عن جيادٍ خذلته،

هو تلك الزهرة المنسية في نكسة ١٩٦٧ و نصر أكتوبر ١٩٧٣ التي أبت أن تتلاشى واستبدلت الجراح بثلاث مجموعات شعرية جامحة وقائع موت الجياد ، و راقصون على الجمر و صبيحة يوم مشمس .

وتتوالى الانكسارات تبدأ بالأحلام و تنتهي بانكسار الروح والعمر في القصيدة لإعادة صياغة المفاهيم والتصورات وتقديم الرؤى الجديدة التي تستنهضنا من جديد فيكون الشعر المناضل الطليعي الذي نفقد برحيلك حرفاً أبجدياً أذرعاً مفتوحة، فاسمِعْني صوتك يا حادي العصر، العصر انطفأت فيه الكلمة وتسلّط فيه السيف على رهبان الحكمة وأقول: أهلاً بك من جديد..

هكذا يفهم عصام الغازي الكتابة على أنها فعل مقاوم، يُحطم التابوهات الاجتماعية والثقافية غير آبه بالناقد

المسطرة الذي يحمل بيد خطوطه الحمراء والقواعد والأسس القديمة المتوارثة ويحمل بيده الأخرى مقصاً. بالنسبة لمفردة الالتزام، فقد تجلت مشاركة الشاعر هموم الناس الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية، إلى حدّ إنكار الذات في سبيل ما التزم به وهذا الموقف يقتضي صراحة ووضوحاً، وإخلاصاً وصدقاً، واستعداداً من المفكّر لأن يحافظ على التزامه دائماً ويشعر بمدى مسؤوليته، عن كلّ شيء، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع، وحيث يجب على الأديب أن يكون في صفّ المضطهدين، والحليف الطبيعي لهم، بلا أيّة تعقيدات نفسية، قام عصام الغازي بمحاورة أقرانه من القامات الأدبية فكان مدركاً أَن السيرة الذاتية للأديب الحقيقي توازي في أهمّيتها أعماله الأدبية فدخلنا إلى غرفة نوم الأبنودي وإلى المطبخ الأدبي لنجيب محفوظ، وأضاء على الجانب الإنساني للتجارب الأدبية، حيث أصبحت نافلة ضرورية قبل مقاربة العمل الأدبي نفسه، لن نحفر له قبراً، سيظلّ شجرة تخرج من تابوت نتفيأ بظلالها، حيث اللغة الشابة، وسخط العبارة ينحتان معاً في الصخر قصائد خارج إطار الزمن، ونُردد معك :

كأن القلب يمامة فجر تهدل، تتراقص واشتعلت في الريح يمامة فجر تبكي، وانطلقت تتفجر وهجاً وجحيماً في عالمها الورقي الساذج.

سنظل نلقاك متوارياً من وراء الستارة في الأدب العربي، فلن نقول لك وداعاً بل إلى لقاء قريب في طيّات الأبجدية.

شاعر لبناني

رحل دون وداع

فوزية شويش السالم

رحل عن عالمنا الصديق الكريم الخلق والأخلاق، الإنسان بكل معنى الكلمة عصام الغازي، الصديق الذي لا يعوّضنا ولا يأتينا الزمن بمثله في يومنا هذا، فقد كان محباً كريماً بعواطفه معطاءً بطبعه، يساعد الجميع ويقف إلى جانبهم خاصة من يتوسّم بهم الموهبة والقدرة على الإبداع ويفرد لهم الصفحات في المجلات التي تولى إدارتها وكانت من أهم المجلات في وقتها، هذا عدا عن مقابلاته الصحافية المهمة مع كبار المبدعين المصريين والعرب، إلى جانب الشخصيات السياسية المؤسسة والمحركة للحياة المصرية.

معرفتي به بدأت منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي واستمرت إلى يومنا هذا، وكنت أتمنى رؤيته في زيارتي الأخيرة للقاهرة التي كانت منتصف الشهر الثاني لهذا العام، حين اتصلت به لأطمئن على سلامته، وكان سعيداً بنجاح عملية الليزك التي أجراها لعينيه ومبتهجاً بقدرته على الرؤية التي تحسنت من جديد. لكن قصر زمن الزيارة وكثرة المواعيد التي حاصرتني لم تتم هذه الزيارة وعدّتُ إلى الكويت دون لقائه، وللأسف رحل بشكل مفاجئ جعلني أندم بشدّة أني لم أقتطع من وقتي ساعة لنسعد بلقائنا فيها، وكأن الزمن ينتظرنا حتى نتفرّغ ونتهيأ لمن نريد رؤيتهم عندما يسمح لنا الوقت، لكننا على غفلة نجد الأحباب قد تسرّبوا قبل أن يمنحونا دفء وداعهم.

كان في جعبتي كلام كثير لك يا صديقي عصام، وكنت أنوي أن أسألك عن الكثير من المقابلات المهمة التي أجريتها مع عمالقة الأدب والفن الذين عاصرتهم وأحببتهم وأحبوك وكتبت حواراتهم المهمة معك التي كنت أريد أن آخذها منك، وأن أستكشف من خلالك ما كان خفياً عني وكنت متشوّقة جًدا لمعرفته، خاصّةً بعض هؤلاء الذين هم بالنسبة لي قمم إبداعية أعشقها وأتمنى لو كان هناك حظ وفرصة أتاحت لي معرفتهم قبل مماتهم، وقد كتبتُ لك عن غبطتي بصداقتك لهم. لكنك للأسف فاجأتنا برحيلك على غفلة منا وانضمامك لهم، فسلاماً لك وسلاماً لهم ولجميعكم الرحمة من رب رحيم كريم.

كاتبة وروائيّة كويتية

مشوار النجاح والألفة

محمد حسن الألفي

انزعجت جداً، إلي حدّ الألم والشجن، حين بلغتُ عتبة الأربعين، وكنا على عتبة مجلّة كل الناس، فوجدني عصام الغازي مشجوناً مسكوناً بمشاعر ثقيلة، اقترب مني بوجهه الطفولي «اللحيم»، وبحمرته الأوروبية المخلوطة بطيبة مصرية، وسألني عمّا بي، فلما كاشفته، ابتسم تلك الابتسامة الرائقة الهادئة، وقال:

.. يا سيدي، ولا يهمّك، أنا في الخامسة والأربعين

كان سر خوفي من سن الأربعين أنها تهدف إلي الخامسة والأربعين فالخمسين، وها هو الرائق العذب، عصام الغازي، يلج الخمسين في سلاسة ولا اندهاش، ولا تململ، فكل تصرفاته تنتمي لسن الخامسة والعشرين!

أحببتُ صديق عمري المهني والإنساني بسبب ورقة مربعة موضوعة تحت زجاج مكتبه، مكتوب عليها بالفلوماستر، وبخط يده المميز جداً، لم يتغير حتى بعد مشارفته سن السبعين، «أكبر قدر من البراءة. أكبر قدر من الطفولة. أكبر قدر من الصفاء.. عصام الغازي»، أعجبتني جداً هذه الورقة ومنحتني الطمأنينة في التعامل مع كاتب حدّد مقوّمات تعامله مع الآخرين، وسلّمهم كتالوج فكّه وتركيبه معاً..!

رقيقاً كان، بارعاً، طيباً، يأخذ على خاطره بسرعة، ويرضى بالسرعة ذاتها، أأكتب عن صاحبي وشريك طريقي في النجاح بصيغة الماضي الذي حضر وانتهى؟

شطرني الخبر، إذ كنت ألقي محاضرتي للطلبة في الجامعة فشردتُ ودمَعَ قلبي ودقّ، فما تخيلتُ أنّ الموت الذي انقضّ، على عصام واختطفه، كان قريباً منّي كلّ هذا القرب..

حين بدأت أول تجربة خاصة لي في الصحافة المستقلة في مصر، رئيساً لتحرير جريدة الميدان، لم أتردّد لحظة واحدة في اختيار عصام الغازي، مديراً للتحرير، فهو قارئ ممتاز لتفكيري ومشاعري، وهو يريد النجاح، فانطلقنا سوياً، مع مجموعة من الصحافيين الشبان، الصغار سناً، الكبار استعداداً، وحماساً، وقد صاروا الآن نجوماً ورؤساء تحرير في الصحافة العربية والمصرية، ولقد صدقونا أنا وعصام، لّأن كل تصرفاتنا كانت مهنية بحتة، وإنسانية مطلقة، فأطلقنا فيهم التوهّج والثقة، حتى حقّقنا أرقامَ توزيعٍ غير مسبوقة في صحيفة مستقلة نقلناها من بئر الصحافة الصفراء إلي ذرى الصحافة الراقية.

وكان عصام يتعامل مع المحررين أباً ومعلماً وأستاذاً، وهو رغم ناصريته النقية، كان يستوعب نقد الغير، وكنتُ، بالطبع أحبّ الزعيم الخالد عبد الناصر، غير أني لست ناصرياً مناصراً لتجربته الاشتراكية، ولمّا كنّا نتناقش، كان يصغي بحبّ ومودّة لانتقاداتي تجاه موقف عبد الناصر من الحريات. اختلفنا في هذه واتفقنا في كونه زعيماً وطنياً تحررياً منادياً بالعروبة منهاجاً وطريقاً للقوّة في عالم الأقوياء، ترك إرثاً لا يجوز تجاهله من العزّة الوطنية.

كنت أقرأ أعمدة عصام الغازي بعد نشرها، رغم ذوقه البالغ، حين يعرضها عليّ، فأرفض، تأدباً، وحرصا على مشاعره الحساسة جداً، ولو فعلتُ.. لثار، وكانتْ تعجبني نارية وثورية عباراته، وهو إذا هاجم فاسداً أو خائناً تحول القلم في يده إلي مقصلة عاتية، فيضاً من الجمل والعبارات المبتكرة، متدفّقة، فيها من الصور والأخيلة ما يذكرك طول الوقت بأنّك أمام شاعر مطبوع، وصحافي مقاتل.

أأرثيك يا صاحبي.. أم أرثي نصفي أم كلي، أم تراني سألحق بك؟!

كان طاهراً، عفيفاً، لم يصنع مالاً، لأن المحترمين في مهنتنا عندنا، في مصر، لهم حسابات بنكية عند مولانا الشيخ تاريخ، أما جيوبهم ففيها الرضا والقناعة وتوجيه الحمد لله، أما الجهلة وأشباه الصحافيين، والعملاء، وصراصير المهنة، فتلمع جباههم ومعاصمهم، بمال الحظ والنفاق والتزلّف والزحف.

لم يصنع عصام الغازي مالاً، لكنه صنع جبالاً من الحب والاحترام، وترك مثلها وأكثر حزناً على فراقه.

كاتب وصحافي ورئيس تحرير جريدة الميدان المصرية

..درس متجدّد عن معنى الحياة والحرية والوطن

جمال القصاص

في حياتي يعبر بشر ويرحلون، أحياناً لا أنتبه لذلك، خاصة في متاهة الحياة وعُقَدها التي لا تنتهي، لكن عصام الغازي كان استثناء من ذلك، كان العابر المقيم، ضمن باقة من الأصدقاء لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.

فرغم أننا في السنوات الأخيرة، كنا نتقابل بالصدفة على هامش ندوات أو احتفالات ثقافية، إلا أنني كنت أحسّ بأن أذرعنا مشرعة دوماً لعناق حميم، تنتظره وتترقّبه بلهفة طفل. كانت ابتسامته المشمسة الحانية كافية لأن تمسح الغبار عن الروح والبدن، وتجدّد فيهما روح الأمل، والتشبث بإرادة الحياة، مهما كانت قسوة الظروف والضغوط.

كنا نسعد بأوقاتنا القصيرة، دائماً كنا نرى فيها ملامح زمن يشبهنا، سواء في علاقات الحب والمودّة التي جمعت بين أسرتينا اجتماعياً، أو في سنوات العمل التي تزاملنا فيها تحت مظلّة مؤسسة واحدة وفي مبنى واحد.. هو في مجلة «المجلة» بالطابق الثاني، وأنا بصحيفة الشرق الأوسط بالطابق الأول.

كان عصام الغازي وطنياً غيوراً على وطنه وأمته العربية، وصحافياً استثنائياً من الطراز الممتاز، يذاكر لحواراته التي شملتْ باقة من أشهر الكتاب والشعراء والمثقفين والفنانين والسياسيين، من مصر والعالم العربي.

كنت أسأله: ما أخبار التلميذ المجتهد النجيب، وعلى أية ضحية جديدة سيلقي شباكه، فيومئ بابتسامته الحنون: عثرت على المفتاح يا «جيمي»، ما يعني ضمنياً أنه سيطرق باب محاوره بقوة، وأنه سوف يعتصره ندّا في مواجهة ندّ، ويخرج منه المخبّأ والمهمّش، الخاصّ جدّا.

فهكذا، لم تكن حواراته مجرد سؤال وجواب بالشكل التقليدي، وإنما كانت بمثابة معركة فكرية وثقافية وسياسية وإنسانية معاً، يخوضها بمحبّة ورغبة صادقة، ومهنية شديدة الدقة في استجلاء الحقيقة، أياً كانت أوجهها وأقنعتها. لذلك أمتدّ أغلب هذه الحوارات في مساحات واسعة من النشر، وعلى حلقات، كما اكتسبت نفساً جذاباً، امتزجت فيه مخيّلة عصام الشاعر بدأب الصحافي وعينه الثاقبة المشدودة لما وراء الخبر والوقائع والأحداث، وأيضا اتّسمت بقدرٍ من الصرامة والحزم، اكتسبها من سنوات خدمته الطويلة كضابط سابق بالجيش.

أشرف عصام على الملحق الثقافي في مجلة «المجلة»، وانتشله مما لحق به من ذبول وموات، وضخ في شرايينه دماً جديداً، عبر رؤى وأفكار تتّسم بقدرً كبير من الطزاجة والحداثة، فأصبح الملحق بصفحاته الأربع، نافذة شديدة الحيوية، تتابع كل الأنشطة الثقافية الهامّة في مصر والعالم العربي، وتشتبك مع ما يعنّ من أمور ثقافيّة أخرى في أوروبا وأميركا.

أذكر من بين أبواب هذا الملحق باباً بعنوان «شاعر وقصيدة»، كان يمثّل شكلاً من أشكال التقطير النقدي، في تحليل الكثير من النصوص الشعرية والتقاطاً لخصوصيتها وتميّزها بلغةٍ شفيفة ومكثفة. وكان لي شرف المشاركة في هذا الباب، شاعراً مرّة، وناقداً مرات.

رحل عصام الغازي مؤمنا بقدَرِهِ، تاركاً إرثاً صحافياً وثقافياً وإنسانياً، هو درس متجدّد عن معنى الحياة والحرية والوطن.

شاعر وكاتب مصري جريدة الأهرام

كما الشهب كنت ومثلها تغيب

وضّاح محادين

حين يغيب مبدع فإن نجماً في السماء ينطفئ… حتى تغدو أكثر حلكة.. أشعر بالأسى كلما غاب مبدع أو روائي أو شاعر، لأني أعي كم نحن بحاجة لوجداناتٍ وضمائر لإحياء الأمل في نفوسنا. المبدعون هم الخطّ الدفاع الأخير عن عقولنا في زمن الجنون اللامعقول.. وفي زمن التأويل اللاعقلي لاغتيال العقول… الإبداع هو مجابهة العتمة والظلمة والظلام، الإبداع حالة كسر الموت والخوف، حالة حياة لا يستقيم معها الموت، حالة بناء لا هدم. المبدع يكسر سمّ الأنا في تحقيق الذات.. المشروع الإبداعي وإن حمل بصمة ذاتية إلا أنه يحمل جينات الأمة.. والكلمة الحيّة هي الباقية ضد قوى الظلمة، القابعة في مدن الخوف لتحيل وجودك إلى اللاوجود فأنت فيها مقتول مقتول لا محالة … المهم أنك لن تمكث طويلاً في مدن الخوف، يختلط الوهم والأمل، الرجاء والقدر، الخرافة واليقين، في ظلّ الخوف، لا نرى لا نسمع، لا نفهم لا نفكر لا نعيش، فقط نخاف، ونخاف فقط.. الظلاميون الرافضون لنور الله ونور المعرفة ونور الجمال أن يصل إلى صميم القلوب، إلا عن طريقهم المظلم المتراكم بالجهل، يردّون بتأويلهم ورؤيتهم حسب فهمهم هم.. يصادرون الحقيقة والثقافة النور وقيم البناء.. يُشيعون قيم الهدم وتحويل الأنا إلي أمزجتهم المريضة. المتنورون مشكاة الأمة التي تضيء الدرب بالفكر والإبداع ليتجلّى حضارة وثقافة.. كمشروع قومي قائم على الأنا، كل الأنا قوامه أمّة واحدة بثقافةٍ واحدةٍ ممتدّةٍ من بابل وآشور إلى مصر إلى آخر الزمان متّسعة بحجم الأفق متنوّعة بتنوّع الذات الواحدة مشروع عمار منذ أن عمّرنا القفار، منذ حدائق بابل المعلقة إلى أسوار دمشق المنيعة إلى أريج الموصل وحلب الشهباء مروراً بفلسطين واسطة العقد بين مصر والشام.. مشروع قومي أساسه الإنسان المبدع المحترِم للإنسانية، الرافض لكلّ تجليات القسمة إلّا على الأمة الواحدة التي أردتها دائماً عصام الغازي، لم أعرفك عن قرب ولكن عرفتك عبر العشرات من الصفحات، وأشهد أنه برحيلك بحلول عتم أكيد.

محام وكاتب أردني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى