«Trip»… تجربة مسرحية مطعّمة بجرأة مختلفة وعلاقة حميمة مع الجمهور

حسين روماني

انتظار بداية عرضٍ أمام مسرح القباني في دمشق أمر طبيعي جداً، ولكن الدخول إليه من الباب الرئيسي نحو صالة الجلوس ليس بالطبيعي في الوقت الحالي، فالخشبة امتلأت بالأرقام، تترقب أصحابها في عرضِ ليس كما اعتدنا عليه، الجمهور يجلس على الخشبة بجانب ريمي سرميني ومصطفى القر أبطال العمل الجريء، يتابع أدقّ تفاصيله التي تصل إلى درجة حركة الأصابع المتردّدة في طرق الباب.

فرقة «test» أعطت خشبة القباني نبضاً شبابياً مختلفاً عن العروض المسرحية التقليدية، من خلال تجربتهم الثالثة «Trip» والمقتبسة عن فيلم «Dream» للمخرج الكوري الجنوبي كيم كي دوك، الدخول هذه المرة من غرفة الكواليس نحو الفضاء المسرحي للتجربة، يعطي المتابع فرصة اكتشاف غرفة النحّات صاحب الرسومات والمنحوتات التي توحي بأبعاد الشخصية، ولتبدأ أحداث التجربة بين النحات والموسيقي ريمي سرميني ومصطفى القر، في عالم اتحاد المادة بالروح، وليحلم الموسيقي بمشاهدة ما يتمنى أن يفعله في منامه، ليجد النحات محقق تلك الأحلام، وبين رؤية الحلم وتحقيقه، يدور الصراع الدرامي لنكتشف الارتباط الوثيق بينهم من خلال تناقض الموسيقي الحالم بالوصول إلى صديقه، مع النحات الذي يحقق الحلم بمشاعره المشتاقة إلى حبيبة خانته مع ذاك الصديق، ليغدوا المثلث المشترك بينهم مكتملاً، وتبدأ كل شخصية بإظهار معاناتها أمام الأخرى، ولتنهي التجربة جريمة قتل بيد النحات وبحلم الموسيقي، وتكون نهاية الأول على يد الأخير، فالارتباط بين الشخصيتين بمسار درامي محدّد يجعل منهما كلاً واحداً، فالحلم الذي نراه ونتمنى أن نحققه ولا نستطيع ذلك، يكون تحقيقه من نصيب شخص آخر، ولكن هذه المرة اجتمع الحلم وتحقيقه بصدفة عميقة جداً، هي أقرب للموعد في عالم الأحلام، بحضور التناقض الكامل.

فكرة استثنائية

الدردشة اللطيفة مع فريق العمل لها حضورها المميز، فالأفكار التي يحملونها بعيدة عن التقليد والنمطية، ورغم الأدوات البسيطة والدعم المتواضع، تحقق الفرقة مرادها، كسر المفهوم التقليدي للمسرح بأشياء ربما لا تكون واضحة للجميع، لكنها خاضعة للتجربة، يصف مصطفى القر لنا خصوصية التجربة بالقول: «التفاصيل التي صنعناها من دخول المشاهد إلى المسرح عبر كواليسه، ومعايشة العرض، كل ذلك محاولة لخلق علاقة حميمة بين الممثل والمشاهد، ولنسيان كل ما يجري خارج المسرح، والغرق بالتفاصيل الدقيقة لعمر العرض».

ويضيف: «ضمن الفرضية الاستثنائية هناك الحرية الكاملة للعمل خارج سلطة مخرج بمساحة كبيرة وبالنص الارتجالي، وربما التدخلات التي تبتعد عن الفكرة تجبرنا على العودة إلى السياق المرسوم. فعندما تتعاون الاختصاصات بين تأليف الموسيقى، والإضاءة المناسبة للعرض، كما السينوغراف، كل ذلك لخلق تصور حقيقي للعمل، الفرضية واقعية، فالفنان برسالته يدافع عن الإنسانية من ضمنها شخصية الشاذ جنسياً التي طُرِحت على المسرح السوري بشكل كوميدي ساخر».

تتصدر روح التعاون أطراف الحديث ليكمل عنها الموسيقي خالد بهنسي صاحب الموسيقى الإلكترونية المرافقة للعرض بالقول: «هذا الفريق جمعنا حبّ العمل بنوع مسرحي معين، أقرب إلى التجريبي، أن تصنع ما تريد بإطار الحداثة، فالفرضية العامة قريبة إلى الأسلوب العام، لست بمؤلف موسيقي بل أنا ميال إلى التصميم الموسيقي، نوع من أنواع الموسيقى الإلكترونية المغيبة عن منطقتنا، ما يخطر في بال الناس عندما يسمعون بهذا المصطلح لا يتعدى لون واحد أو ألوان منها، على عكس ما يتم تجربته عالمياً بشكل متنوع، لتسقط الأفكار الدرامية بطريقة تحاكي تلك الرؤية».

المسرح حياة

ابتعاد الفرقة عن النمط التقليدي في العرض واقتراب الجمهور هذه المرة من السياق الدرامي بكافة عناصره ليس بهدف العبث أو التجربة، ويشير إلى ذلك الوجه الشاب ريمي سرميني بالقول: «معايشة المتفرج للشخصيتين تجعله يتلقى فكرة العرض بطريقة مختلفة، تصل إلى حد لمس حياة تلك الشخصيات، مبتعدين عن المسرح التقليدي بعلبته الإيطالية، فالمقاعد موجودة على خشبة المسرح صاحبة الشعور الغريب المرافق لكل ممثل يصعد إليها، وحتماً سيصل إليهم بعبارة أنهم جزء من العرض، فالمسرح حياة، ليس بمكان للتسلية بل هو حياة، نستطيع إيجادها من اللاشيء».

ويتابع: «تشجيع الأستاذ فؤاد حسن مدير المسرح القومي للعرض بهدف توسيعه، وصل بنا إلى خشبة مسرح القباني، التجربتين السابقتين كانت باستديوات المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن مرحلة التلقي. أما اليوم فالمقياس مختلف تماماً، سواء بتحويل خشبة المسرح إلى المكان المطروح في الفرضية، أو بتقديم العرض بالخبرة المتجددة خصوصاً في مرحلة العطاء من عمر الممثل».

الدعم متواضع والإنجاز… منتج ثقافي

جرأة الفكرة وطرحها للمرة الأولى بشكل جدّي، كانت لها الأهمية الكبيرة في العرض، ليتم تناولها بشكل ثقافي مسرحي بعيد عن التسلية يصل صداها إلى أذهان الحاضرين، ورغم تواضع الدعم لم تدخر الفرقة أي مجهود خاصة المادية منها، لترسم المسرح وتكيفه مع ما يناسب العرض، وأغلب الأدوات المستخدمة من إضاءة وصوت تجاوزت عمرها الافتراضي، ولكن استطاعت الفرقة تحقيق هدفها رغم تلك الإمكانات البسيطة، لتملأ المكان أصوات التصفيق كدليل واضح على إعجاب الحضور بالمحتوى الثقافي المقدم، الممتلئ بعنفوان الشباب وطاقاته، وأقتبس من كلمات الفنانة عهد ديب حول رأيها بما شاهدت: ريمي ومصطفى في هذا الوقت الذي نعيشه، الحرب، الألم، الحزن، الأسى، نبحث عن الأمل، أنتما الأمل، الإبداع والحقيقة أنتما، تجربتكما تجعل من أحلامنا حقيقة، الفن أنتما. نعم، ننحني لإخلاصكما رغم كل العقبات التي وضعوها أمامكما لتتوقفا عن صناعة فنكما الحقيقي الذي يخشونه، قرّرتما وعانيتما فصنعتما، المسرح يفتخر بكما، ونحن نصفق لنجاحكما، المسرح أنتما. ريمي، مصطفى، يعطيكون ألف عافية وشكراً يا رائعين. ولأختم بالعبارة المكتوبة على بطاقة العرض: من الصعب أن ندرك إذا كان هذا العالم الذي نعيش فيه مجرّد واقع أو حلم».

بطاقة العرض:

إعداد وتمثيل: مصطفى القر وريمي سرميني، سينوغرافيا: حسين تكريتي، إضاءة: نورما برنية، موسيقى إلكترونية صوت : خالد بهنسي، تعاون فني سينوغرافيا : روان تكريتي، تعاون فني: جلال بارودي، تعاون فني إضاءة، صوت : شادي ريا، مساعد فني سينوغرافيا : باسل جبلي وأيسر جوابرة، مساعد فني صوت : محمود هواري ورامي الضلي، تصميم البوستر: خالد عثمان، مسؤول الملابس والأكسسوار:علي نوري، ومدير منصة: هيثم مهاوش.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى