العراقيّ عبد الكريم سعدون: أحرص في عملي على توليد ما يزيح الاستعارة جانباً

صفاء ذياب

أثار المعرض الشخصي الأخير الذي أقامه الفنان العراقي عبد الكريم سعدون في صالة الفن في مكتبة «بورلوف» جنوب السويد تساؤلات كثيرة لدى النقاد، عن إمكانية الفن في اختراق كلّ ما هو مألوف. فقد كانت الأشكال التي قدّمها غرائبية بعض الشيء وتسعى إلى تقديم فضاءات جديدة، بعيداً عن أطر القماشة وخشب اللوحة والزيت أو الأكريليك.

سعدون منذ بداياته يبحث عن غير المألوف، منذ عمله كرسام كاريكاتير في الصحافة العراقية في ثمانينات القرن الماضي، وانتقاله إلى العمل على رسوم الأطفال، حتى شهرته كفنان له تجربة خاصة، بعد مشاركاته العديدة في معارض عالمية في الأردن والسويد وإسبانيا وغيرها من الدول.

تجربته هذه أوصلته إلى إقامة أكثر من ستة معارض شخصية وأكثر من ثلاثة وعشرين معرضاً مشتركاً. غير أن التجربة المقبلة ستكون هي الأشهر، حسبما يقول، لأنها ستكون عبارة عن معرض مشترك مع الفنان السويدي ماتس سفينسون، في قاعة متحف «فالكبيج»، في مدينة فالشوبنك في السويد في كانون الأول المقبل.

لم تعد اللوحة لديك مجرد قماشة بيضاء تتشكل داخلها رؤى لونية، بل أصبحت فضاءً تعمل على تشكيله من مواد متنوعة ما التقنيات التي تعمل عليها لبناء لوحتك؟ وكيف يمكن لها أن تشكل فضاءً فنياً للإجابة عن أسئلة لا تنتهي؟

– الفنان جزء من وجود إنساني يعيش في عالم يتغير بشكل سريع، حيث تتغير وبشكل عام نشاطات الإنسان المختلفة وطرائق أدائه وكيفية تواصله مع ما يحيطه، وهو ما حتّم عليه الاستجابة للمتغيرات الجديدة، وحتّم عليه البحث عن وسائط جديدة كخامات تحتضن نتاجه الفني ويفعل فيها طاقة التعبير القصوى. فلم يعد العمل الفني محكوماً بأطر خارجية تتحكم في عملية صنعه وتقسر الدلالة فيه، ولكن أصبح يحتكم لقواعد عمل ذاتية وهي قواعد منفتحة وبلا أطر، وكفنان يعيش عصره لابد من الامتثال لقواعد عمل متحركة باتجاه تسهيل عملية البث، فالقماشة لم تعد مجالاً يتسع لذلك، بل إن الاشتغال خارجها أصبح هدفاً، وهو جزء من عملية تجاوز للأنساق بشكل عام، في محاولة دائمة للاستحواذ على أنساق تعبيرية جديدة تكسر اشتراطات التلقي السابقة. هناك فضاء آخر خارج الإطار كان في السابق يشتغل بشكل حيادي، أصبح الآن مستهدفاً مباشرة كمرافق للعمل الفني ويحيا معه. اللوحة عندي تتشكل وفقاً لآليات لا التزام صارم فيها، وأي مادة تمنح نفسها بامتلاكها مواصفات تشكل مطلوبة، تصبح فضاء اشتغال فاعلة أحاول استكشاف طاقات المادة وقدرتها على البث، الورق والقماش والخشب آتي به من خارج متن المادة المخصصة للعمل الفني، من مواد خاصة بالمكتب أو الطباعة أو مخازن المستشفيات ومن مواد مهملة في الطرقات أو الغابات وحتى الأحبار، فإنها مخصصة لاستخدامات أخرى. يشدني تكرار الوحدات في العمل الفني وأعمل عليه كثيراً، أي أن العمل الفني عبارة عن وحدات متعددة ومتلاصقة يجمعها فضاء تشكلها، وتحيا بقدرتها على البث مجتمعة وفيها أعمل على شد المتلقي للعمل حتى في تنقل عينيه بين تفاصيله أو عمل مقارنات بين وحداته، هي محاولة مني لإظهار طاقة التوليد في هذه التفاصيل، ويهمني كثيراً الانتقال بالعمل من كونه مساحة للبوح إلى اعتباره مساحة توليد دلالي.

يرى بعض النقاد أنك تعيد إنتاج اللوحة شعراً، خصوصاً البناءات التي توحيها قصيدة النثر للفنان، ما الزوايا التي تنتجها في أعمالك؟ كيف تبدأ والى أين تنتهي. خصوصاً أن قصيدة النثر انتقلت من الاستعارة إلى الكناية، فهل انتقلت أنت باللوحة هذه الانتقالة؟

– العمل الفني باعتباره نصاً مفتوحاً يتطلب في إنتاجه استجابة للمتغيرات السريعة التي تحصل في عالمنا، والنص بهذه الكيفية كما أعتقد يحتاج إلى انتقالات بحجم المتغيرات، التي بدورها تحتاج إلى استثمار آليات إنتاج متحركة. فلم يعد العمل الفني وعظياً أو داعماً للمشاريع اللفظية، بل أصبح مكتفياً بذاته من جانب قدرته على التوليد، وأقصد هنا أنه لم يعد بحاجة إلى استعارة من نسق آخر للإفصاح عنه، فهو يمتلك لغته وقاموسه وكذلك قدرة الفنان على الانتقال الحر في إسناد قابليته على التوليد. بالنسبة إليّ فإن الاستعارة أصبحت تقسر الدلالة في العمل وتحددها في إطار واحد، في حين يحاول الفنان جاهداً أن يفتح الأفق إلى أقصى مدى، فلا حدود لتلقي العمل الفني سوى بالقدرة على قراءته قراءة مختلفة، وأصبح الفنان يبحث عن المتجاورات المخفية في الدلالة وليست الظاهرة في تفاصيل عمله. لذلك فباعتقادي أن المتلقي على اختلافه في القدرة على قراءة العمل الفني يستطيع أن يستخلص له دلالة معينة تتفق في المحصلة مع المخفي فيه، بالنسبة لي.

ولا بد أن أشير إلى أن إنتاج العمل عندي لا يخضع لتخطيط مسبق فهو عبارة عن أجزاء تتكامل وتشكل في كليتها العمل الفني لينتج من خطاب وحداته المختلفة خطاباً واحداً.

في قاموس الفن تجد بالضرورة مرجعاً واحداً، وكل من الرسم والشعر يمتلكان أدوات إنتاج مختلفة ولكنهما يتفقان في أن تكون السلطة للنص أولاً، لذلك فأنا في عملي الفني أحرص على توليد ما يزيح الاستعارة جانباً، فلم تعد قادرة على العيش في النتاج المعاصر حيث يكون المحمل بها معرفاً مسبقاً.

ما الذي يدعو لاختلاف طرائق التعبير؟ وكيف تتمكن من تجسيد ألوان لوحتك إلى خامات أخرى في عمل آخر، كالحبال والخيوط والكارتون وغير ذلك؟

– العمل النقدي للفن وضع أسساً لإنتاجه وشكلت المدرسية قواعد عمل تشتغل في تسهيل إيصاله للمتلقي الذي بدوره قد تحصن بقواعد تلقي محددة ويحدد تبعاً لذلك جودة النتاج الفني من عدمه، بالإضافة إلى إخضاعه لعملية فرز وتصنيف، وبالتالي اشتغل الفنان في إطارها، ويمكن للمتابع لتاريخ الفن تلمس المحطات التي شكلت خرقاً للقواعد التي سبقتها وشكلت قواعدها الجديدة، ولكنها ظلت تعمل في حدود الخامات المتعارف عليها. قماش لوحة الرسم وإطارها الداخلي وخامات النحت وحتى طرائق العرض، إلا أن الخرق الكبير لمثل هذه القواعد حصل في عصرنا الراهن، لأن الحاجة أصبحت ملحة للانطلاق بعيداً في التغيير، ودعمت ذلك بشكل كبير النظريات النقدية الجديدة التي هيأت حرية في الإنتاج الفني توازي المتغيرات الحاصلة، وانطلق الفنان في البحث عن خامات جديدة تخدم طرائق التعبير الجديدة، التي يتطلبها الإنتاج الجديد والمختلف، وأنا لا أختلف عن غيري في هذا البحث، حيث أتحرك في مساحة غير محدودة، وأشعر بانسجام تام بالعمل على خامات متعددة في عمل واحد، وكذلك طرائق إنتاج متعددة، فيجد المتلقي في عملي استخداماً لوسائل الرسم التقليدية، إضافة إلى أخرى لم يتعود رؤيتها في مكان واحد، فاللوحة والعمل النحتي أو الطباعي يتبادلان وسائل كانت متبعة سابقاً بشكل مستقل، فلا أتردد في مزج الرسم مع الطباعة في عمل كرافيك، وكذلك في إنتاج اللوحة لا أجد ما يعيق الطباعة عليها، كما أكثر في استعارة عمل الأختام ووسائل الطباعة المختلفة في إنتاجها، وحتى في استخدام ألوان من مشارب مختلفة تحتاج وقتاً غير عادي لتنسجم فيزيائياً مع بعضها. وأتذكر مرة استهجان بعض الفنانين من استخدامي لأحبار طباعة مائية مع الأحبار الزيتية التقليدية. وفي العمل النحتي أيضاً أحاول دوماً مثل هذا المزج، كما أحاول أن تكون الخامات المستخدمة مختلفة في طبيعتها. وهنا أعود للقول إن البحث عن طرائق تعبيرية جديدة تولدها معطيات العصر الذي سمح للفنان بأن يكون عمله الجديد قادراً على التماثل مع طرائق التوصيل الجديدة أيضاً، وأن يدفع المتلقي للتفكير في استكشاف دواخل العمل الفني لفهمه وتقبله.

في تجربة قدمتها خلال المدة السابقة، وهي التخطيط داخل اللوحة، أي يتداخل فنا التخطيط كفن مستقل واللوحة كفن مستقل أيضاً، لماذا هذا المزج؟ وما الذي تريد التعبير عنه من خلال هذه التجربة؟

– التخطيط بالنسبة إليّ يشكل متنفساً كبيراً عشت سابقاً تجربة التخطيط في الصحافة، وأستطيع القول إنني كنت أضع تخطيطاً مجاوراً للنص الأدبي المنشور، إلا أنه يفترق عنه في كونه مستقلاً ولا يشكل مرافقاً توضيحياً. كما أحرص على أن يكون له وجود جمالي بعيد عنه، وما زلت أعده كذلك، لذلك أشعر بحنين له ولا أشعر بالحرج عندما يكون في لوحتي كوجود فاعل. حاولت أن يكون وجود الخط باشتغال مغاير لما هو متعارف عليه، باعتبار الخط نسقاً فنياً وله مهمة لا تتعدى الإظهار، وفي أقصى حد يشكل حدوداً للكتلة. أنا أستخدم طاقته التعبيرية الكبيرة في عمل حركة افتراضية داخل اللوحة، ليحافظ فيها على استقلاليته، ويشكل اشتغالاً علامياً دالاً. غير أن الصعوبة في تضمينه كعلامة رئيسة تكمن في تلقيه، فكيف يمكن إقناع المتلقي بأن العمل الفني لا يحتاج إلى إضافة يفترضها لجعله مكتملاً، ومن الطبيعي كفنان يتملكني شعور بالسعادة عندما أكون قد نجحت فيه بالتعامل مع سطح الخامة بالكيفية التي أحب أن أشكلها فيه، ولا التفت إلا إلى القيم الجديدة التي يمكن أن تنبثق منه.

عرفت في بداياتك كفنان كاريكاتير ورسوم أطفال. إلى أي مدى غيرت هذه التجربة منك كفنان؟ ولماذا ابتعدت عنهما إذا كانا يمثلان حيزاً كبيراً لديك؟

– تجربتي في الكاريكاتير والرسم للأطفال كانت ممتعة فنياً وفكرياً، فمثل هذا النوع من الفن يمنحك مرونة في التفكير والمتابعة والقراءة وقوة في المواجهة وفي وسيلة التعبير، وأقصد بها أسلوب الفنان، إضافة إلى غنى التجربة كونها تجربة صحافية، ما يتميز به الكاريكاتير من قدرة الاختزال في الخط والإزاحة التي يجريها الرسام لكل ما هو ليس ضرورياً في التكوين الفني للرسم الكاريكاتيري، باعتبار النجاح هو في إيصال الفكرة بأسرع وقت للمتلقي وإيقاع تأثيرها عليه. أمدتني هذه التجربة بقدرة اختزال الخط في اللوحة والتقشف فيه، كما ساعدتني على العمل على تكوين مريح للعمل الفني المنتج وساعدت في التعامل الشفاف مع اللون باعتباره عامل تشويش في الكاريكاتير، وبالعكس منه في اللوحة التشكيلية، وتلك الميزات في الكاريكاتير، كما هي أيضاً في رسوم الأطفال، شكلت لدي أساساً لما هو موجود في لوحتي، إلا أنني شعرت بالحاجة إلى أكثر من الرسم الصحافي، إلى وسيلة للتواصل مع المحيط أكثر تأثيراً ودواماً، والى ميل لتركيز الجهد في إنتاج أعمال فنية يمكنها أن تنسجم مع ما لديّ من قدرة تعبيرية أخرج بها من حدود صفحة الجريدة، أو مطبوع الأطفال، إلى فضاء أوسع وبأدوات تعبير جديدة، وإلى الآن أشعر بغنى هذه التجربة وتأثيرها عليّ، وهي التي شكلت أرضية جيدة للعمل الجديد. ولا أخفيك فإن حنيني إلى الكاريكاتير ورسوم الأطفال يدفعني لإنجاز بعض الكتب المخصصة للأطفال التي أكلف بإنجازها كما هي رغبة شديدة برسم الكاريكاتير.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى