ما بين «داعش» والتحالف الدولي الذي يحاربه
شارل أبي نادر
لم نشهد لغاية تاريخه، ومنذ نشوء هذه الحالة الإرهابية الغريبة والتي اسمها «داعش» أن تمّ حصر أو ضبط أو تحديد ما يمكن أن يتصرف هذا التنظيم الغريب، والذي يمكن تشبيهه بمعدن الزئبق الذي يتمدّد مع الضغط ويفلت وينتشر عند محاولة حصره أو تقييده.
في كافة الميادين التي تشهد معارك في مواجهة هذا التنظيم، من العراق إلى سورية إلى اليمن، ومؤخراً في الساحل الأفريقي شمالاً في ليبيا وتونس خاصة، نجد «داعش» يفلت من مواجهة مباشرة ليختار نقطة أخرى تكون بعيدة عن بقعة الاشتباك وليس لديها أيّ ارتباط ميداني أو عسكري معها، ويخلق نقطة اشتباك أخرى غير متوقعة وغير واردة.
في الأمن، تراه يضرب في نقاط أو مناطق أو مواقع غير متوقعة أيضاً، فينقل بقعة عملياته الإرهابية، انتحارية أو عادية إلى بقعة أخرى يختارها بعناية وبفن، لكي تلبّي أهدافه التكفيرية المتشدّدة، فيصيب في السياحة أو في الأمن أو في الجيش أو في الاقتصاد أو غير ذلك من الأهداف الاستراتيجية.
ما يلفتك في هذه الظواهر الميدانية والأمنية من ناحية اختيار «داعش» لهدفه وسرعة وصوله إليه وتحقيقه هو هذه الفعالية وهذا النجاح، بحيث إنه لا يمكنك إلا الاستنتاج بأنّ هناك قوة كبيرة لديها قدرات وإمكانيات كافية لتغطية ولدعم ولمساندة هذه المجموعات الإرهابية في تحقيق هذه الأهداف وبهذه الفعالية. قوة توجه هذه المجموعات باتجاه بقعة ضعيفة لا تملك عناصر مواجهة كافية للوقوف في وجه «داعش»، قوة تختار هدفاً استراتيجياً بحيث تشكل السيطرة عليه صدمة موجعة لأصحابه ويؤمن الفوز به نقاطاً مهمة تراها تصبّ في مصلحة مخططات جهنمية لقوى كبرى وقوى إقليمية والتي هي في الظاهر تشكل تحالفاً واسعاً لمحاربة هذا التنظيم الإرهابي، ومبدئياً، من المفترض أن لا تستفيد هذه القوى من الأهداف التي يحققها هذا التنظيم الذي تحاربه.
ما هذه القدرة الخارقة التي يتمتع بها «داعش» في الرصد وفي دقة المعلومات لكي يهاجم مثلاً طريق اثريا – خناصر حلب في الشمال السوري، وعلى جبهة تتجاوز الثلاثين كيلومتراً ما بين تل الحمام شمال اثريا ورسم النفل شمال خناصر مختاراً عشرات مراكز الحراسة والمدافعة للجيش العربي السوري ولحلفائه وينقضّ عليها كاملة وبطريقة متزامنة وصاعقة في الوقت الذي تكون أغلبها متحركة وغير ثابتة وعرضة للتبديل الدائم تبعاً لاستراتيجية يتبعها الجيش السوري في عدم تثبيتها منعاً لاعتلامها ومهاجمتها؟
ما هذه القوة التي يتمتع بها «داعش» في الاستطلاع كي يختار نقاطاً محدّدة في شرق الرمادي وفي غرب الأنبار وفي صلاح الدين في العراق، تكون مراكز المدافعة فيها من وحدات الجيش العراقي أو من وحدات الحشد الشعبي ضعيفة وغير كاملة ويهاجمها بسيارات انتحارية وبطريقة متزامنة أيضاً، بعد أن يحدّد وبطريقة غريبة نقاط تواجد العناصر الأمنية أو العسكرية من بين عشرات النقاط المخلاة من العناصر لأسباب ميدانية وعسكرية؟
في الحقيقة، لا يمكن لأية مجموعة عسكرية مهما تميّزت بالقوة وبالفعالية أن تصمد في مواجهة تحالف واسع من دول عدة ولسنوات عدة، ولا يمكن لأية وحدات عسكرية، تنتشر على مساحات واسعة وتتعرّض لقصف جوي مركّز ولعمليات عسكرية واسعة تقوم بها وحدات كبرى ، أن تتمتع بهذه القدرة التي يتمتع بها «داعش» على الإفلات من الميدان واختيارها لأهداف يظهر لاحقاً أنّ جميعها أهداف رخوة وضعيفة وفيها ثغرات قاتلة في عديد العناصر أو في طريقة الانتشار أو في نوعية الأسلحة وطريقة تمركزها وتهاجمها في أوقات مناسبة، وذلك من دون أن تستفيد من مصدر معلومات ورصد وإنذار، دقيق وفعّال وواسع التغطية في المكان وفي الزمان ولديه إمكانية واسعة في تحديد نقاط الضعف والثغرات في ميدان واسع يتجاوز مئات لا بل الآف الكيلومترات.
وأخيراً… إن «داعش»، لا يمكن إلا أن يمثل صورة للتواطؤ الأميركي التركي، لقد خلقوه على خلفية نقاط ضعف في السياسة وفي الطائفية وفي المذهبية، وعلى خلفية صراعات على السلطة في جغرافيا صاخبة، تغلي عصبية وغباءً. لقد خلقوه في توقيت حساس يشهد تبدّلات وتغييرات أساسية واستراتيجية في الأنظمة وفي السلطات في منطقة تشهد نزاعات بين قوميات مختلفة، في منطقة تجلس على ثروات قاتلة وتحضن جغرافيا خارقة في استراتيجيتها وفي أهميتها. خلقوه بمواصفات عدة وبقدرات واسعة، جعلوه محركاً لسياستهم الدموية وموجهاً لمخططاتهم الشيطانية، إنه سلاحهم الفتاك، إنه… هم.
عميد متقاعد