«ما ودّعك صاحبك»… رحلة الأنا التائهة المتفلّتة من سطوة الزمان والمكان!
النمسا ـ طلال مرتضى
أوّل الغيث قطرة، وأوّل الحبّ نظرة، ما بين هذي وتلك قول اشتهاء، متنه توت النسوة، والسياق سبّحة تنفرط حبّاتها مثل عنّاب ذاب «كزاً» تحت سطوة البرد. حين التقينا على ناصية الورق، في «خان زاده» كتابها، لم يكن موعدنا مفتعل عن سابق نيّة، لعلّها المصادفة، والتي هي خير من ألف ميعاد، حينذاك قالت، وهي تشعل أصابعها ـ التي تشبه أقلام «باركر» الفرنسية ـ شمعاً لتنير بهو الحكي: «هلا أدخلتني مجاهل حبكتك المنتقاة لنذيب معاً جليد اللوازم الرتيبة؟»، فأنا لم أعد من «نساء يوسف» كتابها، السابحات في بحور الشعر، أنا مُلك يمين لمن يكسر «رتم» الكلام، ويجلي عن غبش جموحي غبار الطلع.
«ما ودّعك صاحبك»، المروية الثالثة بتوقيع الأديبة والناشرة اللبنانية لينة كريدية، صادرة عن دار النهضة البيروتية للطباعة والنشر والتوزيع. والتي تسقط متونها منذ العتبة الأولى ـ العنوان ـ في تعالق مفتعل، تناصي مع الآية «ما ودّعك ربّك وما قلى» في مقاربة تدحض وشاية العذل، حين رسمت الراوية خطاً بيانياً ممنهجاً لتنجو ببرنامجها السردي المراد، أي الطريقة التي تجلو النصّ على المستوى التقني، من دون المساس في الحكاية التي عنت بالتفاصيل الأدقّ على حساب معادلات الزمان والمكان ومقاربتهما.
ومن هنا، لا بد من التمحور حول جنس النصّ الإبداعي ومكوّناته البنائية وتمضهراته الإبداعية، في ما يطلق نقدياً «جينالوجيا النصّ» الذي أدلى من دون قصدية بمضمره، بأنه يدلف عباءة السيرة الذاتية والتي خرج منها أدب اليوميات، وهو طرق أدبي عرفه الشرق في القرن الحادي عشر وابن البنا هو أوّل من اشتغل به، ويعود الفضل في تعميم هذا الباب للعالمي صمويل بيبس.
«ما ودعّك صاحبك» مروية مثقفة، تختلف عمّا سواها من طرائق الروي كونها مجترعة من يوميات متتالية، وهذه اليوميات لا تحتمل ضخّ الكثير من العلائق الشائكة.
استطاعت الكاتبة بأسلوب سرديّ سلس، زجّ أحداث رفعت منسوب الحبكة الدرامية إلى درجة شائق، من خلال إسقاطات اليومي الذي نعيشه أو نعاينه، وعبر أسئلة قريبة وبعيدة، خاضعة لحساسية، مزاجية، عاشتها الراوية في ساحة لاوعيها الذي يعكس رؤاها ورؤيتها معاً في ما يجول ضمن مدارات مداركها.
وكي أُقارب هنا، عندما نزحت نحو إسقاطات «كليلة ودمنة» لابن المقفع، إنّما بلبوس بدعيّ جديد ومن خلال بحث «الراوي الضمنيّ» للمروية «سراج»، عن سعادة أبدية، تعبت نفسه من نفسه في الوصول إليها عن طريق القناعة والحكمة، التي بدت كوهم كبير وقديم، كقِدم إنجيل بوذا، أو لربما طالعها ذات قراءة في «الخيميائي» أو «عزازيل» حين ولج عوالم الطبخ ليقف إلى حقيقة، ربما لم ينتبه إليها البعض منّا، وهي أن عالم الطبخ قابل للأنسنة عبر التعرية والإسقاط القصدي، حين تناول أنواع الخضار كأمثولة قائلاً: «لم أعرف تفسيراً لنفوري من الفليفلة، لعلّها الوحيدة بجميع ألوانها والمتفاخرة بحدِّيتها لم تُفلح في استعطافي واستمالتي إليها فأنا لم أستشعر منها إلا الوقاحة وقلة الأدب والأنانية،لا بل النرجسية! فما أن يُسمح لها بدخول أحد الأطباق، حتى تستأثر وحدها من فورها بمذاقه! تارة بالتشويش على شركائها، وأخرى بإخضاع ما حولها لسادية طعمها ـ كناية للانتهازية ـ ليفضي بامتعاض: يحزنني مشهد الخضار في الطنجرة، وقد وقعت ضحايا هذه المتسلّطة اللئيمة المستكبرة، فلا البطاطا تنفعها لطافتها وتواضعها، ولا الكوسى يُنقذها غباؤها ودماثتها، وحتّى سواد الباذنجان لم يُفلح بقهرها وغلبتها، يُزعجني هذا الباذنجان بضعفه وتردّده واستسلامه، فهو يفقد شكله ولونه عند أول طبخٍ حقيقيّ له، وهذه اللوبياء أرستقراطية التربية، ملكة أناقة الخضراوات، تحاول الحفاظ على أناقة مظهرها، ونضارة بشرتها، وفرادة طعمها في جميع الظروف مهما كانت ضاغطة، على عكس البطاطا، سهلة الاسترضاء، الوديعة المسالمة، التي تجاري الجميع بلطفها، وحلاوة معشرها، وكمال اجتماعياتها، وتلقائية تكيُّفها مع مختلف الظروف وهذا البصل صعب المراس، صاحب الكيان المتميّز، الذي يصعب الاستغناء عن حضوره، فهو الرقم الصعب في معظم الأطباق الشرقية هذا السهل الممتنع، يغلب أكلُه نيئاً ممانعتنا، ويكسر توبتنا مرّة بعد مرّة، ثمّ يستطيع مشويّاً حين تقسو عليه النار أن ينافس الكراميل بحلاوته هذا المشرقيّ الهوية، دبلوماسي متكيّف رابح، مهما تغيرت الظروف من حوله، أمّا حزني فعلى البامية، هذه الحساسة الهشّة جداً، تقدّم نفسها بكلّ طيبة خاطر، من غير التفات إلى شطارة الطاهي تنهار فور تعرُّضها لقساوة المعاملة وشظف العيش، فيهترئ قوامها تماماً».
ثمة مفازات كثيرات تناولتها الكاتبة بحسب متغيرات النصّ وطقوسه، لأن نصّ اليوميات متقلّب ومزاجيّ يخضع للتغيير، ويتماهى مع السائد ويحايث الواقع إلى حدّ التحاور، كما تعاطفت الكاتبة مع القضية الكردية، وحين دعمت مقولتها ببيان من الكتب المقدّسة والفلسفة، لتنتهي بقناعة تنطلق منها نحو يوم جديد وهي، أن جلّ ما يحتاج إليه الانسان أن يفهم جسده وذاته الروحية، ويكون متصالحاً مع نفسه، فليس من اليسير أن يتناغم الانسان مع أناه.