مبدأ المقاومة والخروج الرسمي العربي من التاريخ!
د. فايز رشيد
في خطوة دراماتيكية سريعة وبعد طول سُبات في غرفة الإنعاش! تنادى وزراء الداخلية العرب للتضامن مع قرار مجلس التعاون الخليجي، لإصدار قرار باعتبار حزب الله «تنظيماً إرهابياً»! بالرغم من أنّ عدوانات صهيونية متكرّرة حصلت على أكثر من دولة عربية، ولم يسارع الوزراء العرب ولا الجامعة إلى الانعقاد بهذه السرعة المتفوّقة على سرعة الضوء!
جدير ذكره، أنّ كاتب هذه السطور كتب يوماً مقالة بعنوان: «أمة لا يوحدها غير وزراء داخليتها»! للعلم، اجتماعاتهم أقصر اجتماعات في المؤسسات العربية قاطبة، فهم دوماً متفقون على القمع! يقول سبينوزا: «إذا واجهتك مصيبة عظيمة، فلا تبك ولا تضحك، ولكن فكّر»! على هذه القاعدة، وانطلاقاً من عدم الانفعال، رغم مسبّباته الموضوعية، أدعو نفسي والقراء إلى التفكير ليس بكلّ ما قاله ابن خلدون في مقدمته عن «العرب» وما أكثره وأدق وصفه! وبعيداً عن التفريق بين العرب وأعراب الزمن الحالي «الأشدّ كفراً ونفاقاً»، وإنما أكتفي بجزئية ابن خلدون الوصفية في «أسباب انهيار الدولة» فهو يقول: «إن لم تعتبر الدولة بتجارب الحياة ودوائرها، فإنها حتماً ستسقط في حفرها! ويستطرد… الحياة مدرسة، وكثيراً ما تعيد دروسها، ولكن بألوان وأشكال مختلفة، لكن اللبّ واحد في جوهره! ولذا فاستقراء التاريخ، ودراسة عبره أمر واجب لكلّ من يطلب الرشد في حاضره ومستقبله»! مقدّمة الفيلسوف العربي تحمل تشخيصاً دقيقاً في وصف حالتنا الراهنة.
تحويل تعبير «المقاومة» إلى «إرهاب» مثّل هدفاً مركزياً للولايات المتحدة وحليفها الصهيوني منذ سبعينيات القرن الماضي.
في عام 1970 زار أحد الباحثين د. جورج حبش، الباحث استراتيجي أميركي مناصر للثورة الفلسطينية. قال لأمين عام الجبهة الشعبية ما مضمونه: إنّ مؤسسة «راند» المؤيدة للكيان الصهيوني، وللتيار المتشدّد في البتاغون مفاده: «سنقتل المقاومة الفلسطينية بالدراسةPalestinian Revolution Until Death Study We Will». استرعتني الحادثة واستفسرت من الحكيم بعدها، أخبرني تفاصيلها، وأفاد أنّ القول ما زال في ذهنه. لقد أصدرت المعاهد الأميركية بالتعاون مع نظيرتها الصهيونية بين العامين 1970 1975 العديد من الكتب، التي تتناول موضوع الإرهاب، وتهيّىء الأجواء لتحويل «مقاومة الشعوب» إلى مفاهيم «إرهابية». لعلّ من أبرز هذه الكتب مؤلَّف الكاتبة الأميركية كلير ستيرلنغ بعنوان «الشبكة الإرهابية تعمل»، وأيضاً لتجسيد هذه الإرهاصات إلى استراتيجية أميركية صهيونية ممارَسة، عُقد مؤتمران مشتركان بين الولايات المتجدة والكيان: مؤتمرا جاناثان شقيق نتنياهو المقتول في الهجوم على عينتيبي عام 1979 في القدس المحتلة، وعام 1984 في واشنطن، واتفق على خطوط الحركة السياسية للطرفين مستقبلاً، لطبع المقاومة المشروعة للشعوب بـ»الإرهاب» بالرغم من مشروعية المقاومة بما فيها المسلحة، بقرارين واضحين من الأمم المتحدة القرار رقم 3034 عام 1972، والقرار رقم 3314 في عام 1974 .
دون سرد تاريخي طويل لتدرّج تبنّي الولايات المتحدة والدول الغربية للاستراتيجية الجديدة، بدأ الكونغرنس الأميركي وبعض البرلمانات الغربية في اعتبار المقاومة الفلسطينية بشكل عام أو بعض فصائلها بالإسم – كالجبهة الشعبية منظمة «إرهابية»، وكذلك حزب الله اللبناني بعد ظهور مقاومته أو – جهازه العسكري على وجه التحديد من بعض الدول . ساهم في انتشار هذا المفهوم طولاً وعرضاً، انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية وتفرّد الولايات المتحدة بالعالم على ما يزيد عن العقدين. أيضاً لعب دوراً كبيراً في تعميم المفهوم: الإهمال الرسمي العربي لدول العالم المساندة للقضايا الوطنية التحرّرية العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، تماماً كما معاهدات الصلح المشؤومة مع الكيان الصهيوني: كمب ديفيد، أوسلو، ووادي عربة. النظام الرسمي العربي وكأنه كان على أحر من الجمر لهذه الفرصة! تلقف هذه المعاهدات، لفضّ الإشتباك نهائياً مع القضية الفلسطينية، والتحلّل من تبعاتها، تحت شعار «أهل مكة أدرى بشعابها»، ناسياً أو متناسياً الخطر الصهيوني على دوله العربية، هذا الذي سيجتاز حدود غزة، ونهر الأردن.
ساهم أيضاً في تعميم المفهوم وإنْ بشكل مباشر أو غير مباشر: انحسار قوى عربية مؤهّلة للقيادة، لصالح ظهور قوى جديدة، تحاول الإمساك بعجلة القيادة العربية، بعيداً عن أيّ فهم استراتيجي لما تمارسه من معارك جانبية على جبهات عربية عديدة، وبعيداً عن أية محددات استراتيجية واضحة سوى تنفيذ ما تُؤمر به! وفي ظلّ غياب مفاهيم العمل الجماعي المشترك وبخاصة أنّ سمة العصر هي: إنشاء التجمعات الجيوسياسية الاقتصادية للدول على المستوى القاري بالطبع إلا العرب! لذا كان مخططاً أيضاً، أميركياً وصهيونياً منذ سبعينيات القرن الماضي لإغراق المنطقة ودولها بصراعات جانبية: إثنية، مذهبية وطائفية، لصالح تنحية جوهر الصراع الأساسي والتناقض التناحري للمنطقة العربية برمّتها مع الكيان الصهيوني. يقول رئيس الوزراء الأسبق شارون في أحد لقاءاته: «إنّ الأمن الحقيقي لإسرائيل تجاه الخطر العربي لا يكون باستعمال القوة فقط، فهي تُقدّم حلولاً مؤقتة، أما الأمن الحقيقي لإسرائيل فلا يكون إلا بوجود تناقضات تصل إلى حدّ العنف بين الدول العربية، مما يؤدّي إلى التخلي عن العداء لإسرائيل كأولوية». أيّ أنّ الواقع العربي الراهن يعتبر نموذجياً بالنسبة لأمن «إسرائيل»، دون أن يكون معنى ذلك بالضرورة، أنّ «إسرائيل» أسهمت في إيصال العرب إلى الواقع البائس».
حريّ القول أيضاً: إنّ أجندات خارجية مفروضة على دول عديدة عربية وإقليمية! خذوا مثلاً المصالح التركية الصهيونية مع بعض الأنظمة الرسمية العربية وأهدافها المشتركة المتقاطعة مع العدو الصهيوني وحلفائه الغربيين. لقد أصبح شعار «تحرير دمشق أهمّ من تحرير بيت المقدس» شعاراً مركزياً لمعظم دول النظام الرسمي العربي، رغم أنّ الأخيرة هي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين اللذين يجري التبرك باسمهما عاطفيا من رأس الهرم السياسي السعودي! وشعار «قتال الشيعة أوْلى من قتال إسرائيل»، واعتبار «حزب الله منظمة إرهابية»، هذه الشعارات هي خارج إطار الزمن والتاريخ، وخارج إطار الواقعية والموضوعية، وهي غلاف سوليفاني مكشوف لتمرير أجندات محلية مدعومة إقليمياً ومخططة دولياً، ذلك للمزيد من تمزيق الوطن العربي، وفقاً للمصالح، التي جرى رسمها في واشنطن وتل أبيب وأنقرة وعواصم أخرى، هذه بالطبع، ليست بعيدة عن التصوّر.
في العادة، وفي قوانين الصراع، فإنّ مقتضيات ألف بائه، تتمثل في: إمساك كلّ طرف بأوراق القوة لديه في مجابهة العدو، ضمن فهم استراتيجي محدّد للصراع، يعبّر عن نفسه بسياسات تكتيكية ممارَسة تخدم الهدف الاستراتيجي المحدّد لكلّ طرف في عملية الصراع.
كرّر شارون وصف ما يسمّى بـ «مبادرة السلام العربية» بما سبق أن قيل عن بيانات استنكار النظام الرسمي العربي لمختلف أشكال العدوان على الفلسطينيين والبعض العربي: «بإنها لا تستأهل الحبر الذي تُكتب فيه»! ومع ذلك، ما زال النظام الرسمي العربي متمسكاً بالمبادرة!؟ ويَعتبر ورقة القوة العربية المتمثلة في «حزب الله»، منظمة «إرهابية»!؟، ويعتبر أنّ مواجهة إيران أهمّ من مواجهة العدو الصهيوني!؟
لن نتحدّث عن حالة «الإيفوريا» التي حلّت «برداً وسلاماً» على الكيان، بعد قرار مؤتمر وزراء الداخلية العرب! لا ننسى أيضاً تصريحات القادة الصهاينة في أنهم مرتاحون للعلاقات مع البعض الدولتي العربي! جدير ذكره أنّ «مؤتمر الامن القومي الإسرائيلي»، الذي انعقد قبل حوالى شهرين في الكيان، قد أسقط تماماً أيّ خطر على «إسرائيل» من النظام الرسمي العربي ! بكلام آخر أنه «أسقط العرب نهائياً من حساباته»، معتبرا أنّ الخطر الأكبر يأتي من إيران وحزب الله. كما رسم محدّداً استراتيجياً للعام 2016 يتمثل بالحرف الواحد في «تعزيز العلاقات الإسرائيلية القائمة مع الدول العربية المعتدلة، والسعي لإنشاء تحالف استراتيجي عربي إسرائيلي لمجابهة التحديات في المنطقة»! ما نخشاه: أن ينتقل فيروس القرار العربي إلى قرارات بالنسبة لبعض التنظيمات المقاتلة في المقاومة الفلسطينية! ومخطئ تماماً من لا يحدّد موقفاً من قرار وزراء الداخلية العرب حول حزب الله! ويريد أن يمسك العصا من منتصفها! نقصد الإخوة في حركة حماس، هداهم الله!
يبقى القول: يجري تقديم هدايا يومية من قبل النظام الرسمي العربي للكيان الصهيوني: انتصارات سياسية، استراتيجية ومعنوية رغم فاشية دولته! وفعلاً من الصعب انتزاع تفاؤل ولو صغير، بعد إمعان النظام الرسمي العربي، وفي تسارع لافت إلى الخروح من التاريخ! وها هم يوشكون على مغادرة الجغرافيا والواقع! مؤسف… مؤسف… مؤسف! ومع ذلك… سنظلّ متفائلين حتى العظم فخطوة التغيير الكبيرة تبدأ أيضاً بحلم… وسيتحوّل الحلم حقيقة بالتأكيد وفقاً لقوانين حتمية التاريخ.