أنطون سعاده ليس زعيماً فقط 2 تأسيس الحزب على قاعدتين فلسفيتين… الهويَّة والرسالة
هـ. الحلبي
لم تمضِ سنوات خمس على الفتى أنطون سعاده في البرازيل إلى جانب والده خليل سعاده، حتى استهلّ بداية شبابه الغضّ وهو ابن التاسعة عشرة من عمره، باكورة عمله التنظيمي في المغترب، مع بداية عام 1925، بتأسيسه «جمعية الشبيبة الفدائية السورية»، باختياره ستة أشخاص، بعد رعايتهم بالإرشاد والتوجيه والبناء النفسي الراسخ بصبر ومثابرة فترة أشهر، انتقاهم فرداً فرداً حتى أيقن من ثقته بهم، فجمعهم بلقاء خاصّ وأسرّ إليهم بعزمه على تأسيس جمعية سرّية وطنية فدائية. بدأت تنظيماً عسكرياً يستوحي إرادته الوطنية التي عبّر عنها في مقاله أنه لو توفّر فدائيّ سوريّ يقتل بلفور خلال زيارته دمشق لما بلغت القضية الصهيونية ما بلغته. وعهد إلى كلّ منهم بمهمة تكرار عملية التحضير والانتقاء بتهيئة خمسة أعضاء، لبناء «حركة سورية منظّمة تنظر في شؤون سورية الوطنية…». أنطون سعاده، مجلة المجلة ـ شباط 1925 ـ مقالة الصهيونية وامتدادها .
واشترط عليهم أن يتّصف الشخص بحسّ وطنيّ وسلوك راقٍ، ولا يتجاوز الثلاثين من عمره، فالأعمال الكبرى هي مهمة الشباب المتألق الحيّ وجدانه الوطني. وحُدّد موعد للقاء أوسع. ولمّا حلّ الموعد كان حضور اللقاء 27 شخصاً، أعلن سعاده في هذا الاجتماع وضع الحجر الأساس لجمعية سورية وطنية سرّية. توسّعت الجمعية وأصبحت موضع تساؤل واستطلاع من المغتربين جعلت الأعضاء المنضوين في الجمعية، يطالبون بالإعلان عنها حيث لا يلزم جمعية سرّية أن تعلن عن نفسها وتبرز للإعلام والجمهور. ما كشف حبّ الظهور الذي أخذ يبرز لدى بعض المؤسّسين. فانسحب منها سعاده وبعض الأعضاء.
بعد خروجه من «جمعية الشبيبة الفدائية السورية»، تولّى رئاسة «حزب الرابطة الوطنية السورية» عام 1926، لكن الأعراض المرضية نفسها التي نالت من الجمعية عادت لتنال من حزب الرابطة، فانسحب منه أيضاً إلى تأسيس «حزب الأحرار السوريين» بالاعتماد على الأعضاء الستة الأوائل في الجمعية، فوضع له مبادئه ونظامه أيضاً، وأخذ ينشط في أوساط المغتربين حيث أدّى دوراً وطنياً مرموقاً في المهجر خلال اندلاع الحرب السورية الكبرى 1925 ، تنوّعت بين الاحتجاج والاعتصام ورسائل التهديد إلى المسؤولين الفرنسيين والمذكرات المطلبية الوطنية، منها وثيقة سرّية خطّها سفير فرنسا في البرازيل إلى وزير خارجيته، تلقيه رسالة تحمل تواقيع مئات عدّة من السوريين ترفض الاستهداف الفرنسي للمواطنين السوريين وقتلهم والدور الفرنسي في سورية، كما تلقى عاملون في السفارة الفرنسية في البرازيل تهديداً بالقتل من جرّاء السياسة الفرنسية في سورية.
بعد سنتين من تأسيس «حزب الأحرار»، أجرى سعاده تطهيراً له عام 1927 من الأنانيين الفاسدين والمفسدين، وشدّد بناءه الحزبي التنظيمي لكنه رأى بعد سنة، عام 1928، أن العمل في المهجر يجب أن يكون تتمة وتابعاً للعمل الوطني في سورية فجمّد نشاطه السياسي وأخذ يفكّر بالعودة إلى الوطن ليؤسّس حزباً يتولى المهمة التي عقد العزم على القيام بها.
انتسب سعاده إلى «محفل نجمة سورية» الماسوني في آذار 1925، عندما بلغ عمره 21 سنة، وهي السنّ المطلوبة للدخول إلى الحركة الماسونية التي كان رائجاً الدخول إليها بين المغتربين وما زال كذلك، وبدت نصوص مبادئها له أنها تحترم حرّية الشعوب وتكافح الظلم والطغيان… فتصوّر أنها الآلية الملائمة لنصرة قضية حرّية سورية ونموّها. إذ رأى في رسالة استقالته من الماسونية «أن الاشتغال في القضية الوطنية هو ما عجَّل في انضمامي إلى الماسونية».
بعد تأدية سعاده القَسَم الماسوني صعد بسرعة سلالم المسؤوليات حتى بلغ أعلى درجة فيها ضارباً المثل بالتفوّق والنجومية القيادية. وكان آملاً بتوحيد المحافل السورية الماسونية في العالم لإنشاء قوة كبيرة للدفاع عن هذه القضية. فسعى ووالده إلى عقد مؤتمر للماسون في البرازيل في أيار 1926. لكن الأعضاء الماسون اعتبروه انحرافاً نحو الشؤون السياسية وزجّ المنظمة الماسونية فيها. وكان هذا الموقف التنظيمي الماسوني بعدم التدخل الظاهري للأعضاء في الشأن السياسي لخدمة أيّ هدف وطني، بحيث يتم تقييد العضو أو تحييده عن الاهتمام في شؤون وطنه مهما كانت. فرأى سعاده ارتباطه بهذه الحركة معيقاً للقضية التي رسمها غاية لحياته، وأنّ تلك المنظمة لا تصلح لما توقعه منها. فانسحب من عضويتها في 24 أيار 1926 بينما والده سبقه إلى الانسحاب بأيام إذ كان انسحابه في 10 أيار 1926. وكانت هذه هي الخلاصة التي كرّسها سعاده من تجربة انتسابه إلى الماسونية أنها غير صالحة لخدمة القضية السورية القومية الاجتماعية، ولذك بعد تأسيسه الحزب السوري القومي الاجتماعي طلب من الأعضاء عدم الدخول في هذه الحركة لأنها تتناقض مع غاية الحزب وعلى الأقل لا تخدم تلك الغاية التي هي موضوع التعاقد الحرّ بين المقبلين على الدعوة القومية وبين الشارع ـ الزعيم. ولأن طبيعة الماسونية، كغيرها من الحركات العالمية تعمل للتزاحم على المال والجاه ولا همَّ وطنياً لديها، وأهدافها مستترة وغامضة وملتبسة وعام غير محدد، في أدنى توصيف ممكن ودقيق. من بلاغ الزعيم في شأن الحركة الماسونية 10 أيار 1949 .
ساهمت هذه التجارب التأسيسية الحزبية كلّها أو المشاركة في منظّمة عالمية لا تخدم القضية السورية، في حسم سعاده مساره أنّ البناء الحزبي المؤثّر والفاعل يجب أن ينطلق من أرض الوطن ومن التفاف المواطنين السوريين حوله بأكثرية كافية، ويشكل المغتربون السوريون عوناً ودعماً بشرياً وسياسياً ومالياً، كما تدلّ رسالته الموجهة إلى النزالة السورية في البرازيل على إثر وفاة والده خليل سعاده. فعزم على عودته إلى الوطن، وباشر في أيار 1930 في وداع رفقائه في المغترب.
سعاده المنظِّم
التجربة التنظيمية التي نمت لدى سعاده في المغترب بتأسيس أحزاب ووضعه مبادئها وأنظمتها، وتعرّفه إلى التنظيم الداخلي في الحركة الماسونية وتدرّجه خلال أشهر إلى رتبة سكرتيريا عليا، عزّزت خبرته في العمل التنظيمي وكشفت مواهبه التنظيمية بشكل لافت. فلم يؤسّس أيّ رابطة أو نادٍ أو جمعية أو حزب من دون تعيين الأسس التنظيمية الواضحة لكلّ المنتسبين إليه وتعيين المسؤوليات بين الرؤساء والمرؤوسين في آلية متّسقة تمنع التضارب والاتكالية والتفرد والشخصنة. إذ كان يشدّد على أهمية وضع مبادئ ونظام لكلّ حزب أسّسه أو شارك فيه. ففي «جمعية الشبيبة الفدائية السورية» وضع مبادئها وغايتها، وأنتُخب رئيساً لها رغم كونه أصغر المرشّحين سناً، كما يقول نواف حردان في الجزء الأول من كتابه «سعاده في المهجر». كما جرى انتخاب سكرتير عام للجمعية ومدير للدعاية، وستّة مدراء آخرين. ووضع سعاده مبادئ «الرابطة الوطنية السورية» وعدّل قانونها، بينما الغاية هي نفسها بقيت الغاية التي سبق ووضعها للجمعية الفدائية. تتبدّل الطرائق لكن الهدف المحدّد هو نفسه، حتى تكشّف له أن لا تحقيق لهذا الهدف إلا بحزب قوميّ يؤسّس في الوطن.
بعد عودته من البرازيل بدأ يؤسّس نهضة في الوطن ويتّصل بالطلاب والشباب والجامعات في دمشق وبيروت ويحاضر في الجمعيات والأندية. لقد تيقّن سعاده أولاً في المغترب ضرورة تأسيس عمل مركزي للأمة في كيان وطنه السوري. وهو بعد عودته إلى الوطن عام 1930 وتجواله في أنحائه لمدة سنتين، تيقّن من عدم وجود مؤسسات اجتماعية وسياسية وثقافية تسهِّل عملية النهوض وتُساهم فيها. خلالها، التقى الدكتور أنيس فريحة من المتن، وهو مؤرّخ وعالم لغة كبير في الجامعة الأميركية، فقال فريحة له: إن استطعت أن تجمع على حبّ الوطن خمسة من الرجال في هذه البلاد لقدّمت لك رقبتي لتدعس عليها! بعد أشهر من رهانه قصده العالم إلى كوخه في بيروت ليؤدّي وعده لما رأى قوافل النهضة تقتدي بأنطون سعاده الشويري قائداً ومخلصاً وطنياً وبلغت بضع مئات يهتفون بحياة سورية أمة واحدة لن تزول، ردّاً على سؤالين فلسفيين قدّمهما:
مَن نحن؟ أجاب: نحن سوريون والسوريون أمة تامة؟
ومَا الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ فأجاب: الحزبية الدينية العمياء بأوكسجين عداوتها منعت تكوُّن وجدان قومي عام يحصّن شعبنا من التفتت إلى محاور طائفية تلهث خلف مجاميع دينية دولية، مسلمين عرباً ومسيحيين غرباً. فكيف الآن وهذه المجاميع تتمحور محوراً سنياً يتغطى بالعروبة ويستسلم للعدو بذريعة الخوف من إيران، ومحوراً مقاوماً يقاتل العدو اليهودي والإرهابي بالمقاومة ويتّهم معظم العرب أنه اختراق شيعي فارسي بينهم!!
وذكر نواف حردان في «سعاده والمهجر»، أنه بعدما أسس سعاده حزب «الأحرار السوريين» وضع له المبادئ التالية: سيادة الأمة السورية على نفسها. توحيد البلاد السورية ضمن حدودها الجغرافية المعروفة. فصل الدين عن السياسة في الدولة السورية. مكافحة الطائفية. اعتماد القوة لنيل الأمة السورية حقوقها وبلوغها أهدافها. أما نظام الحزب فكان ينصّ على وجوب احترام الرؤساء وتأييد سلطة زعيمه في التشريع والتنظيم والقيادة، وأن يؤدّي كلّ عضو قَسَماً رسمياً عند الانتماء، وألّا يتجاوز عمر المنتسب ثلاثين سنة، وأن يبقى الحزب سرّياً. وأجمع الأعضاء على سعاده رئيساً له وزعيماً وناطقاً بِاسمه، وله وحده حق القيادة العليا، وتعيين المؤهلين لوظائف الحزب.
أما المسؤوليات الواردة في النظام فهي التالية: رئيس أو زعيم، نائب رئيس، الناموس العام، أمين الصندوق، مدير الدعاية، مدير الثقافة، مدير العلاقات العامة.
تثبت هذه المؤشّرات التنظيمية مسيرته القومية المشرقة، وأنه كان صاحب قضية منذ وعيه على الحياة، ومنذ رفضه حمل العلم العثماني وحتى تأسيسه النهضة القومية عام 1932 هو هو. وبالتالي كان طوال هذه المدة يُعدّ حركته الحزبية التي توّجها بتأسيسه الحزب القومي الاجتماعي، الذي عدّل تسميته إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي . بعدما استكمل دراساته الفلسفية والسياسية والتنظيمية والتاريخية والاستراتيجية التي حفلت بها علوم عصره وكوّن منها «نظام فكر» ومؤسّسات كفيلة بانتصار القضية المنذورة لها.
عمل سعاده على درس أوضاع مجتمعه السوري دراسة معمّقة. هذا المجتمع الراسف تحت التجزئة الجغرافية نتيجة مفاعيل «سايكس ـ بيكو»، والواقع في أجزاء منه تحت احتلالات استيطانية فارسية، تركية، سعودية، يونانية، مصرية ويهودية. إضافة إلى التفسّخ الروحي الثقافي، في ظلّ إهمال الشأن الاقتصادي.
بعد ذلك كلّه، وضمن حقيقة الناموس الطبيعيّ الذي يؤكّد ديمومة الحياة في الأمم الحيّة، انتفضت كالطائر الفينيق، بسعاده، الذي كشف عن حقيقة واقعها، وأزال الغبار عن جوهر أصالتها، منطلقاً من نظرته الجديدةٍ إلى الحياة والكون والفنّ، نظرة تتخطّى الجزئيّات، وتصوّب على شموليّة الكلّيات الإنسان الكامل فيها هو المجتمع لا الفرد، الذي هو بحدّ ذاته مجرّد إمكانية بشرية، طاقة إنسانية، وقدرة تحمل في كينونتها من قيم المجتمع الذي وهبها إياها.
وفي دائرة هذه النظرة، كشف عن واقع الحياة الإنسانية، الذي هو واقع مجتمعاتٍ، لكلّ منها خصائصه وقيمه ومجرى حياته والمجتمع السوريّ أحد هذه المجتمعات الذي يتميّز بخصائص نفسية ومادية هي خلاصة التفاعل بين الإنسان السوريّ والوطن السوريّ.
وقد بنى عقيدته على هذه القاعدة الحياتية الثابتة والجديدة، العقيدة التي عبّر بها عن حقيقة الأمّة السورية، وعن نصاعة وجهها الحضاريّ الذي شكّل الرافعة الحقيقية لحضارات مختلفة في أنحاء المعمورة، العقيدة في شموليّة مبادئها الأساسية والإصلاحية، التي بها وحدها دون سواها طريق الخلاص للأمة السورية.
يتبع…