من مآثرنا
قرأنا الكثير عن وسائل التعذيب التي تعرض لها القوميون الاجتماعيون بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي وخاصة في سجنيّ «المزة» و»القلعة».
إلا أنه، رغم الاعتقالات التي تعرّض لها القوميون، وتسريح الآلاف منهم، من الجيش وقوى الأمن ووظائف الدولة، فإن رفقاء عديدين كانوا انتموا سراً، أو لم يكونوا مكشوفين للأجهزة الأمنية، بقوا ناشطين حزبياً في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ حزبنا في الشام.
في كتابه «الماضي المجهول وأيام لا تنسى» يروي الرفيق متى أسعد في الصفحتين 142 -143 أنه، بعد فترة من التعذيب على يد عبد المجيد جمال الدين وبهجت مسوتي لأكثر من ساعة، بقصد نزع الاعترافات منه، « أتى بهجت مسوتي 1 بورقة وقلم ووضعها أمامي وقال: « أكتب وصيتك لأهلك» ووضع يده في الوقت ذاته على مسدسه مهدداً بإطلاق النار على رأسي . فأجبته بأني لا أملك شيئاً لأوصي به، وقم بما تريد القيام به بسرعة.
عندها قال لي عبد المجيد: «سنرى» وضغط على زر في الطاولة وأنا أقف أمامه. بعد نصف دقيقة شعرت بيد تربّت على كتفي من الخلف ويد أخرى تمتد نحوي بلكمة تصل إلى ذقني وتتوقف، فصرخ هذا الشخص: «هذا أنت»، نظرت إليه ففوجئت به، إنه فضل الداغستاني 2 الذي كنت قد أقنعته بالانتماء إلى الحزب في حمص ومعه أحمد الدروبي وقد اتفقت معه أن يبقى انتماؤه سرياً «. عرفني وعرفته على الفور، فالتفت فضل إلى عبدالمجيد جمال الدين، وقال له: «هذا الشخص لا يكذب، أنا أعرفه جيداً»، فرد عبدالمجيد قائلاً: «أضربه يا فضل»، فرفض فضل وقال له: «لا أضربه ولن أسمح لأحد بأن يضربه»، فعاد عبدالمجيد ليسأل أحمد الدروبي قائلاً: «وأنت يا أحمد»، فأجاب: «وأنا أيضاً لا أضربه ولا أسمح لأحد بأن يضربه»… وكان هذان العنصران هما اليد اليمنى لعبدالحميد السرّاج.
بدأ عبدالمجيد بالصراخ قائلاً: «يا فضل اضربه»، وكان جواب فضل هو نفسه: «قلت لك لن أضربه ولن أسمح لأحد بأن يضربه، هذا الرجل لا يكذب، إسأله فهو لا يتكلم إلا الشيء الصحيح وعليك أن تصدقه»، فغضب عبدالمجيد ومساعده وغادرا المستودع حيث كان معتقلاً ، وبعد ذلك خرجنا من غرفة التعذيب إلى الباحة، فجاء فضل وأعطاني سيجارة وأشعلها لي وجلب لي كرسياً لأجلس عليه، فجلست وإلى جانبي أحمد الدروبي، شعرت أنه منشرح، وغاب فضل فترة ثم عاد وناولني فنجاناً من الشاي، قلت له، شاي يا فضل! ضحك وقال لي: «يخرب بيتك… أتريد قهوة؟!» قلت: «نعم». فذهب لفترة قصيرة وجلب معه ركوة قهوة، جلسنا بباحة المستودع نشرب القهوة ودخّنت سيجارتين، فقال فضل لكاتب المحضر جميل الهوّاش: «كل ما يقوله تدوّنه لأنه رجل صادق»، فسألني الكاتب جميل مرة أخرى: «هل تريد أن تعترف؟ « فكررت قولي: «إنني لا أعرف شيئاً حتى أعترف به»…
فسجّل ما قلته ثم قرأت محضر التحقيق ووقعت عليه ثم أعادوني إلى المنفرد.
«ذكرت الأمينة الأولى هذه الحادثة في مذكراتها لأن الغرفة التي كانت مسجونة فيها في الطابق الثاني تطل نافذتها على المستودع وقد شاهدت ما كان يحصل في تلك الليلة، وتقول الأمينة في مذكراتها إنهم جلبوا في منتصف الليل سجيناً وحققوا معه وعذبوه كثيراً وفي آخر التعذيب جلبوا له فنجان قهوة وأعتقد أنه ليس قومياً اجتماعياً لأنه لو كان قومياً لما جلبوا له القهوة 3 ».
ومن كتاب الرفيق متّى أسعد «الماضي المجهول وأيام لا تنسى» هاتين المأثرتين عن تعاطٍ قومي اجتماعي، يصحّ أن يكون أمثولة وقدوة. فيا ليتنا جميعنا نحيا ونجسّد قسمنا ونتعاطى ضمن قواعد الحزب النهضوية، مناقبَ وترفعاً ونهجاً ثقافياً.
المأثرة الأولى
يروي الرفيق متّى أسعد في الصفحة 166 أنه، بعد أن اقترن بالرفيقة ناديا أمين معوض في مطرانية جبل لبنان للروم الأرثوذكس لم يكن يملك سوى 35 ليرة لبنانية. وقف يفكر كيف يمكن أن يتدبر أمره.
يقول: كان بين الرفقاء الموجودين في المطرانية رفيق اسمه نقولا حلاق 4 … لاحظ الأمر على وجهي… فأتى إليّ وسألني قائلاً: « رفيقي متّى… إلى أين ستذهب مع عروسك؟» قلت «والله لا أعرف»… فقال: « ألا تعرف إلى أين؟!» قلت: «لا، لا أعرف»، فقال: «أليس معك نقوداً؟»، فقلت له: «لا»… فقال: «إذن تذهب معي إلى بيتي… أنا عندي شقتان، شقة لي ولزوجتي وشقة لوالدتي وأولادي، تسكن أنت وعروسك في شقتي وأنا وزوجتي ننام في الشقة الثانية مع والدتي والأولاد، وتستطيع البقاء عندنا إلى أن تدبر أمورك». شكرته كثيراً… وبالفعل ذهبنا إلى بيته، وكانت شقة فخمة ومحترمة من الطراز الأول، فيها من جميع ما هبّ ودب، وكل الوسائل الترفيهية…
بقينا في تلك الشقة أكثر من عشرين يوماً، وكان كل يوم أفضل من الذي سبقه، من حيث المعاملة التي لقيناها من الرفيق نقولا ومن زوجته ومن والدته، كما لو كنا من أهل البيت وأكثر.
بدأ الرفقاء يتوافدون لزيارتي، وكان كل واحد منهم يقدّم نقوطاً بما تيسّر له… هذا ينقّط بخمسة وعشرين ليرة وذاك بخمسين ليرة وذاك بمئة ليرة…، ولم تمض العشرون يوماً في شقة الرفيق نقولا إلا وكان معي 850 ليرة لبنانية، وكان يعتبر في ذلك الوقت مبلغاً محترماً جداً.
المأثرة الثانية
كان قد أتى اليّ الرفيق عبدالوهاب التركماني 5 وقال لي: «هل تأتي لتسكن معي…»، فقلت له: «أين؟» … قال: «في قرنة الحمرا»… فاعتقدت أنه يعرض عليّ أن نسكن في البيت نفسه، فقال: «لا»، هناك شقة إلى جانب شقتي فأنا أسكن في بناية يملكها الرفيق فريد سمعان المغترب إلى أفريقيا، تعال أنت وعروسك واسكن في تلك الشقة الفارغة وعندما يعود الرفيق سمعان من أفريقيا تتفق معه على الإيجار»… قلت له: «بارك الله فيك».
أعطيت الرفيق نديم قحوش 400 ليرة وقلت له أن يشتري لي عفشاً للبيت وبالفعل ذهب الرفيق نديم واشترى سريرين وفرشتين وغازاً وطاولة مطبخ، وأدوات المطبخ وغيرها مما يلزم البيت الجديد… وبقي معي 450 ليرة لبنانية.
ثم ذهبنا إلى قرنة الحمرا مع الرفيق عبدالوهاب تركماني.
بعد أربعة أشهر من سكننا في قرنة الحمرا، عاد الرفيق فريد سمعان من أفريقيا، فأتى الرفيق عبدالوهاب التركماني وأخبرني بالأمر، فاجتمعت بالرفيق فريد وأخبرته القصة… وقلت له: «إني مستعد أن أدفع الإيجار الذي تطلبه»… وكنت في ذلك الوقت قد عُينت ناظراً للتدريب في منفذية المتن الشمالي. وكنت أتقاضى مخصصاً شهرياً قدره 225 ليرة لبنانية. كما قدمت اعتذاري لأننا فتحنا الشقة في البناية من دون علمه. فضحك كثيراً وكان يحمل معه حرامين من النوع الفاخر جداً فأهدانا إياهما، وقام ليغادر فأعدت سؤاله حول الإيجار فقال: «نحكي بالموضوع فيما بعد»…
ولما غادر وجدت تحت الوسادة مغلفاً فيه 500 ليرة لبنانية، وعلمت أن هذه النقود من الرفيق فريد سمعان، هذا الرفيق المميّز الذي قال لي لاحقاً «أن باستطاعتي البقاء في الشقة للمدة التي أريدها من دون أي إيجار ولا من يحزنون»…
هوامش
1. ذاع صيت عبدالمجيد جمال الدين وبهجت مسوتي لكثرة ما تعرض له الرفقاء من أنواع التعذيب في سجن المزة. تماماً كما ذاع صيت أنطون عازوري أحمد في ثكنة المير بشير بعد فشل الثورة الانقلابية.
2. يروي الرفيق متّى في الصفحة 108 كيف التقى الرفيقين في الشرطة العسكرية فضل الداغستاني وأحمد الدروبي، في حمص ثم كيف انتمى الرفيق فضل على يد المقدم الرفيق غسان جديد مشترطاً أن يبقى انتماؤه سرّياً.
3. راجع مذكرات الأمينة الأولى الصفحتين 280-281
4. نقولا حلاق: مراجعة أرشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info، وقد تحدثنا عنه وعن عقيلته الراحلة الرفيقة مادلين عكاوي.
5. عبد الوهاب تركماني: مراجعة ما نشرنا عنه على الموقع المذكور آنفاً.