حنطة الشام تكسر «زمن الحصار» بنصّها المفتوح إشباعاً
النمسا ـ طلال مرتضى
عندما تتحوّل الأرض حكراً لمغتصبها، وتصير أنت سندباداً، بطل حكاية، أو كومبارس في فيلم مبتذل، اِحفظ وطنك بعيون الحبيبة. وحدها «ياسمينة» مفتاح السر:
جمعت مطرها
دموعها
لملمت عينيها اللتين زرعتهما في مدخل البناء
طوت كتاب الذكريات وغرقت في وحدتها.
لم تكن بلدة المرج البقاعية وحدها الغارقة بوجع الانقسام في ظل الحقبة «العثمنلية» آنذاك. آفة «الأنا» جعلت من خطيب مسجدها الوحيد، يتحوّل إلى كبير «المقاطعجية»، يمارس سلطة الدسّ والترهيب على أبناء بلدته، في حين ينتفض إبراهيم الجردي، «الزكرتي أو القبضاي» مكسّراً قلم «الشيخ فريد» في كناية للجمه من التعاطي مع المحتل العثماني.
«السفر برلك»، القشة التي قصمت ظهر البعير، وهذا حال كل الأوطان المسلوبة، يموت شبابها تحت سماء لا ينتمون إلى نجومها وأرض يمقتونها، لأن ترابها لا رائحة له.
وعلى رغم قول «ياسمينة»: «العقل العربي توقف عن الإبداع بعد الاحتلال التركيّ»، إلا أن الكاتب، ومن متّسعه الوصفي، أخذنا عبر سرديته «زمن الحصار» إلى عوالم اندحرت منذ سنوات سالفة، وقف فوق رؤوسنا يدقّ أجراس الخطر، عبر بثور ليست بمرض «الجدري» أو «الريح الأصفر» الذي أصاب الفلاح الطيب «أبا فهد»، بل هي إفراز للسعة بعوضة الكرم، التي أشاعها «الشيخ فريد»، بأنها وباء وبيل. ألَم تتحوّل تلك البثور إلى بذور طفيلية؟ نمت على عنق أوطاننا بلبوس الورد، وبعدما خنقت ياسمينه، كشّرت عن أنيابها الحقيقية.
«زمن الحصار»، الرواية التي خلعت عن نفسها لبوس الطائفية، وأسّست لاستنهاض معادلة الحبّ أمام الحرب، صورة الزمن الغابر، انعكاس حيويّ، لاستبطان حقبة متّصلة منفصلة، سعى كاتبها إلى إحراز مغايرة ما، منحازة لشرطها الاجتماعي، المتماهي مع الشرط الإنساني بالمطلق الأكيد، من دون الذهاب إلى شروحات مستفيضة في النصّ، بوصفه جزءاً من كلّ، بل بوصفه ذلك النسيج الدرامي على مستوى اللغة والحدث.
كما دأب الكاتب غسان الديري إلى استحضار صيرورات، تكاملت دلالاتها بين الكاتب والمؤوّل من جهة، وبين المؤوّل والمتلقي من جهة أخرى. الأخير الذي يرفض الوقوف على الحياد بالمطلق، لأنه سيتلمس بعضاً منه، في مرايا ذاكرة النصّ المكتنز بتأويلات اصطفاها الكاتب، في حالة إبداعية تستحقّ مقاربتها وإسقاطها على واقعنا الحالي، متجلّياً «ظهور الصورة» المشهد البانورامي للنصّ، من خلال تذويب ـ «تماهي» حسّه الفني، «تحميل النصّ على الفنّ»، ومحاكياً من سبقوه بالقول: «عيناها جزيرتان عائمتان على بحر العيون المسجونة»، و«الشمس والقمر وبقية النجوم تسكن فيهما».
فيما يبدو أنّ «زمن الحصار»، الرواية الصادرة عن «دار سائر المشرق» البيروتية للطباعة والنشر والتوزيع، أسّست لمجال خصب لتدوين فواتح إبداعية قادمة، والتي يمكن استشرافها ليس بالمنجز الذي غادرناه للتو، «كم أشعر برغبة عاصفة أن أغرز أصابعي في جسده، أن أخلع قصائد الخنوع من ذاكرتي»، بل بما يمكن استشرافه من إرهاصات أخرى، تشي بحراكٍ إبداعي توزّع باتّساق على حقول إبداعيةٍ مختلفة، يمكن له أن يعكس متخيّلات وعلائق النصّ الجديد، الذي استأنف شرطه الجمالي والوجودي إن صحّ المجاز.