حماس ولغز التحوّل الاستراتيجيّ «الأرض مقابل الدم»
عبد الفتاح نعّوم
تستمرّ المزايدات على فلسطين، من يدعمها أكثر؟ قطر أم السعودية؟ بالنسبة إلى قناة «الجزيرة» أصبح الحديث محصوراً على غزة، والشهداء هم «قتلى»! «العربية» لا تختلف عنها كثيراً في هذا الصدد. «الجزيرة» وحدها تسلّط الضوء أكثر على التراخي المصري ولو في اتجاه التعامل الإنساني مع ضحايا الحرب. في مصر جُيّش الرأي العام عبر الإعلام ضدّ حماس، نتيجة للصراع بين «الإخوان» ومكوّنات الدولة المصرية. تستمرّ المزايدات بين العرب ويستمرّ المتعاطفون مع فلسطين في البكاء على الدم المسكوب والواقع المقلوب.
أما العدو الصهيوني فعينه على شيء آخر. يمتدح المصريين. يتلقف كارهو الجيش والمتعاطفون مع «الإخوان» شهادة العدو. يزدادون حقداً على الشعب العربي المصري وعلى إعلامه وجيشه ومؤسساته. ينجح العدو مرة أخرى. عين العدو على شيء آخر، ترى ما هو؟
ينظر بسخط إلى تفاهة استخباراته. متى تمكنت المقاومة في غزة من أن تتعاظم قدرتها على الردع؟ كيف تمكنت من الحصول على أسلحة كاسرة للتوازن؟ كيف أضحت قادرة على قصف شمال الكيان من جنوبه؟ يحار العدو ويستمرّ العرب في البكاء والمتاجرة بالدم الفلسطيني في الساحات والإعلام والسياسة، في حين أنّ الزمن زمن نصر. الجديد هو النصر، أما الدم وقتل الأطفال فباتا مألوفين! العدو يريد تجريب جميع الأوراق كي يجيب عن أسئلة الرأي العام داخل كيانه. يريد أن يؤكد لهم أنه لا يزال متفوّقاً… لكنّه حين يُقدم على اجتياح بري يكتوي بنيران «الكورنيت».
تستمر «الجزيرة» في نسب هذا التحوّل كلّه في بنية القتال إلى فترة «الإخوان» في مصر، وإلى قدرات المقاومة على تصنيع الصواريخ والطائرة من دون طيار. المهم أنّ العدو بات يعرف مصدر تلك التقنيات.
يستمرّ أيضاً الهجوم على السيسي. ماذا لو كان مرسي لا يزال رئيساً؟ كلاهما قدّم مبادرتين شبه متطابقتين. قبلت حماس مبادرة مرسي في حينها، ولم يكن ذلك خياراً سليماً. رفضت الآن مبادرة السيسي، وحسناً فعلت.
ثمة ميل للتعمية على حقيقة مفادها أنّ جميع الأنظمة العربية تتبنّى طريق المفاوضات وفلسفة أوسلو. سورية وحدها ترفض التسليم بـ«حق» الكيان الصهيوني في الوجود». علامَ إذن خصومة «عرب الاعتدال»؟ ربما هي خصومة أو سباق على من هو الأكثر عمالة؟ مبادرتا السيسي ومرسي كانتا كلتاهما للتنفيس عن «إسرائيل»، سواء كان مصدر الطلب سعودياً السيسي، أو قطرياً «الإخوان» لا فرق. يستمرّ الوضع هكذا وفي ذهن العدو سؤال واحد: كيف امتلكت المقاومة هذه القدرات؟
فلنعد بالذاكرة إلى سنة 2012، حينما زار الأمير القطري والقرضاوي غزة. مُنحت وعداً بتمويل مشاريع إعادة الإعمار. لم يتحقق الوعد في ما بعد. المهم أنّ اسماعيل هنية وخالد مشعل كانت سمتهما الفرحة. بات واضحاً أنّ تلك الحركة كانت لهدف واحد واضح، إخراج حماس من معادلة المقاومة وتركيبها في معادلة الحرب على سورية. المقاومة أكثر دراية بالجيش السوري، وأكثر معرفة بسورية، وهي أفضل من يسهّل المهمة. كانت لتكون مكافئة لدور حزب الله في سورية. ربما كان ذلك هو الاعتقاد الساري آنذاك. لم يقبل الجعبري ما قبلته القيادة السياسية. كان الاغتيال جواباً، والمقاومة جواباً على الجواب، وتدخل «الإخوان» لوقف المقاومة ومنح العدو المزيد من الوقت. ماذا عساه حدث بعد ذلك؟
المقاومة في فلسطين ولبنان وإن وجدت تعبيراً في الدين إلاّ أنها مقاومة وطنية، لذا تراجعت الهوية «الإخوانية» لحماس حين جاءت لحظة الصراع مع العدو. هذا مبرّر، فكلّ إنسان يحمل في جيناته مجموعة هويات متراكبة يقفز إلى المقدمة كلّ منها بحسب الظروف. حماس الآن مقاومة. أبناؤها الفلسطينيون يعرفون جيداً من معهم ومن ضدهم، من يضع بين أيديهم خبرات دول في العسكرة والتكتيك والاستراتيجية، ومن يمنحهم أفضل ما تنتجه مختبراته من تقنيات حربية. لا شك في أنّ هذا هو من يؤمن بعدالة قضيتهم وبحقهم في الوجود، وليس من يريد لهم وطناً بديلاً، أو ربع وطن في أفضل الأحوال، من يسمّي شهداءهم قتلى في إعلامه، ويدّعي أنه هو من يقف مع مشروعهم في مكان آخر. لا مشروع لأبناء حماس سوى في فلسطين الحرة من الشمال والجنوب. صاروا يعرفون أنّ قيادتهم تساوم على ذلك.
تدافع حماس الآن عن قضية وطنية، عن وطن محتلّ من كيان شوفيني متعصّب متحالف مع إمبريالية عالمية، لذا أينما حلّ أبناء المقاومة هي القضية بوصلتهم، ومهما ارتكبوا من أخطاء يسهّل إعادتهم إلى جادة الصواب. إذا كان الحمساويون ذهبوا إلى سورية وقد ذهب عدد منهم فعلاً – للحرب على الدولة السورية، فلماذا لم يستبسلوا بسالتهم أمام العدو؟ وإذا كانوا قادرين على تصنيع تلك الصواريخ بعيدة المدى وعالية الدقة، وتصنيع طائرات من دون طيار، فلماذا لم يظهر شيء من ذلك قبل الآن؟ أيُعقل أنّ كيان العدو لم يكن يعرف بوجود مختبرات ومعامل جبارة مثل هذه في غزة؟ ربما هي في طهران ودمشق. هناك تعلّم مقاومو حماس ما ينفع القضية. قد يكون تذرّع رجال المقاومة في لحظة معينة بأنهم يذهبون إلى سورية لقتال الجيش السوري، كانت تلك أنسب فترة لجلب أسلحة كاسرة للتوازن لأجل حرب لا محالة من وقوعها مع عدو لا عدو سواه في عقل المقاومة، مقاومته قدر واختيار، تذوّب جميع الولاءات أمام نشوة النصر على عدو بات وجوده على المحك، يغالي كثر في منحه صورة أسطورية يعرف هو أنها مجرّد كذبة. رحم الله الدكتور عبد الوهاب المسيري، كاشف كذبة «إسرائيل الدولة التي لا تقهر». حلف المقاومة أذكى ممّا يتصوّرون.
كان العدو يخوض حرباً وهو مطمئن إلى أن لا علاقة بقيت جامعة بين حماس وإيران بعد «ربيع» أدخلها حظيرة «الإخوان» وقطر وأخرجها من حضن سورية وإيران. ما أكثر ما يبذر المرء قمحاً فيحصد شوكاً. المقاومة اليوم في أفضل حال مع إيران وسورية، ولم تكن هاتان الدولتان يوماً على درجة من السذاجة بحيث تربحان العدو، والمقاومة على أعلى تنسيق بين جميع فصائلها. لكنّ ثمة تياراً متفقاً الآن في العالم العربي على سرقة النصر سياسياً وإعلامياً. ما حدث عام 2012 يحدث نفسه الآن. يريدون احتساب النصر لـ«الإخوان المسلمين» في مصر، فليكن، ما الفائدة؟ لعلّه أمل الغريق في التمسك بقشة. العدو يعرف، والمقاومة تعرف، والأيام بيننا.