لغو على رصيف التمنيات

علي قاسم

رئيس تحرير «الثورة» سورية

لم يكد الاتفاق السوري الروسي يعلن، حتى كانت زوبعة التصريحات تفترض تفاصيله وتضيف عليه بما تشاء تمنياتها، محاولة أن تعيد ترتيب ما شهدته الساعات التي سبقته حين حفلت بما يكفي لتكوين مسار يتيح للمتابع أن يرى طاولة جنيف، وأن يتخيَّل وفق معطياتها كراسي اللاعبين في المشهد الدولي، بغضّ النظر عمّا شابها من تعديل هنا أو تحريك هناك، لتكون في نهاية المطاف قادرة على إنتاج بعض المقاربات التي سيكون من الصعب الحكم على مؤشراتها، فالعناوين لا تكفي عادة لتوضيح ما ينطوي تحتها من تفاصيل.

فالأميركي الذي يسترشد بما بقي له من نتف في زوايا المقاربات المهملة أو الثانوية، لا يزال منشغلاً في قاع الاعتراف الذي توَّجه الرئيس أوباما في سابقة قد لا تتكرر كثيراً في السياسة الأميركية، وهي التي لم تعتد عليها ربما منذ إنشاء الولايات المتحدة الأميركية، في وقت لم يتردد الروسي في وصف السياسة الأميركية بالقاصر التي لم تنضج بعد، ناهيك عن جوانب القصور الأخرى التي طالما كانت معياراً أو سياقاً تتراكم من حوله وعليه مشاهد الانتقاد للسياسة الأميركية.

الفارق، أن الرصيد المتبقي من عمر الإدارة الأميركية زمانياً وسياسياً، بالكاد يكفي لجمع الحقائب المفرودة والملفات المبعثرة على جبهات مفتوحة، وهي التي تركت الحبل على الجرّار لأدواتها وحلفائها، لكي يوغلوا في استطالاتهم، ولم يوفروا حتى انتقاداتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، التي لم تخلُ أحياناً من لكمات مباشرة على الوجه الأميركي نفسه، والغمز من قناة العجز الذي ردّ عليه أوباما بشكل لا يقبل التأويل بأنه تعبير عن استراتيجية لا تريد الانجرار وراء الفوضى والصراعات التي لا تخدم المصالح الأميركية.

ضمن هذا الهامش، كانت مزايدات التمنيات تشتغل، فيما التحرك الأميركي محكوم بأغلال ملحقة ناتجة عن تلك المقاربة القاصرة أو غير الناضجة التي أعطت تفسيراً يترجم أو يعكس الارتباك الحاصل من غياب الإدراك بحدود ومساحة التحرك الروسي وما يمتلكه من مرونة مضاعفة، حيث جاء الاصطياد الأميركي في الوقت بدل الضائع خاوياً حتى بقايا تلك النتف، فيما الصوت المرتفع لكيري، لم يكن أكثر من ملء فراغ، يكبر على وقع الهواجس التي تشتعل لدى مقربيه من الحلفاء والأدوات على حدّ سواء، إذ وجدت أنها تكاد تخرج من الجعبة الأميركية خالية الوفاض، حين جرّدها التفاهم الروسي الأميركي من مساحة المشاغبة التي اعتادتها للتذكير بوجودها.

وهو ما يمكن فهمه، أو على الأقل استنتاجه، من السطور المنفعلة التي تناولها كيري باستعجال متعمَّد، والتي كانت تستهدف بالدرجة الأولى تهدئة روع أدواته وحلفائه، وهم يعيدون ضرب أخماس أدوارهم بأسداس مهمتهم الوظيفية، التي بدت أقرب إلى خلطة إضافية على طبخة الحصى التي تتنافر داخلها الحسابات والمعادلات، وتتناقض تبعاً لها النتائج التي طالما شكلت رافعة لمواقف لم تكتفِ بالتهوّر والحماقة، بل تجاوزتهما إلى حدّ المسّ باستقرار المنطقة والعالم.

على وقع هذه المشاهد الناشئة بشكل اضطراري، ينطلق جنيف بخطوات مترددة، رغم ما يجري تداوله من منغصات محسوبة على التعطيل المفترض، ومرتهنة في جوانبها المختلفة على العرقلة المفترضة مسبقاً، لكنها تجري في أغلبها على حسابات النية الأميركية الصادمة لتوقعاتهم، حيث حساب المصالح الأميركية المفتوح لم يعُد هو ذاته، والعمل على تراكمات رصيده أصابت الكثير من المحسوبين تقليدياً وفعلياً على الأميركي بتعثٍّر في الحساب، بحيث البديهية القائلة بأن المتوالية العددية أو الهندسية حسب الحاجة تقلب النتائج رأساً على عقب، ولم يعُد هناك ما يمكن التعويل عليه أميركياً إلا في سياق ما تبقى من تلك النتف التي أمسى أغلبها على شكل أطلال.

المواءمة الأميركية بين فرضية سابقة ومعادلة لاحقة لم تكن متاحة، خصوصاً في ظل تعقيدات كانت أقوى من سلطة الدولة العظمى في العالم، وربما أكبر من الحسابات الجارية لأدوات وحلفاء يتم تسعيرهم حسب لائحة فصلية أميركية، تتأثر أو يتحكم بها المناخ السائد، فخلطت بين ما جرّته السياسة الأميركية وفائض النفاق، وبين جردة حساب تقتضيها المواجهة المحتدمة على بساط المنطقة المتفجر، بكل الأذرع الإرهابية التي غرستها منذ عقود عقيدة أميركية تسلحت بالكذب والمراوغة والتسويف، واعتمدت على أدوات تحولت في معظمها إلى عبء يثقل الكاهل الأميركي، ويعيق استدارتها، ولا تترك لوزير خارجيتها التفريق بين النصوص في الوثائق، وبين التمنيات التي تطلقها التفسيرات الأميركية اللاحقة، وأحياناً المسبقة.

في ظل هذا التورّم يبدو من الجائر المقارنة بين هواجس تنمو وتكبر، وبين أوهام تتبدّد على أرض الواقع، حيث السند الأميركي يحتاج إلى من يأخذ بيده، وهو القاصر حسب توصيف روسي كان مُتقناً إلى حدّ البلاغة، فيما عجز الأميركي عن النضج الكافي كي يكون قادراً على اجتراع تسوية يتراكم، فيصعب عليه امتلاك الجرأة للانخراط الفعلي في المسار السياسي، بل يستصعب على الأقل أن يحيّد كوابحه ووكلاءه المعتمدين في التعطيل عن حلبة الحديث السياسي، والعودة بهم إلى جحورهم جنباً إلى جنب مع إرهابييهم وما أنتجوه للمنطقة والعالم.

الردح على وقع التمنيات التي لا تصنع سياسة ولا تنتج حلولاً، لا يردم الهوة ولا يلغي الفارق، فحين يرفع الأميركي يديه عن بقية وكلائه وعلناً، سنرى جميعاً كيف تتساقط أوراق الدمى، وكثير منها لم تنفعه تلك اليد، رغم اتكائه المطوّل والمزمن عليها، وإن كان الأمر يحتاج لبعض الوقت ريثما يتمكن الأميركي نفسه من بلوغ عتبة نضجه أو على الأقل أن يتخطى قصوره السياسي، وحتى ذلك الحين سيتساقط الوكلاء ويتعثَّر المرتزقة وقد يتدحرج معهم وربما قبلهم الكثير من هواة الارتزاق في عواصم المال الخليجي، وإن كان بعضهم بلبوس المعارضة..!!

تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى