مهدي عيسى الصقر… الحياة اليومية بوصفها نصّاً
صفاء ذياب
عشر سنوات كانت كافية لإعادة قراءة المنجز القصصي والروائي للكاتب العراقي مهدي عيسى الصقر، وهو ما سعى إليه اتحاد أدباء البصرة في الجلسة الخاصة التي أقامها للحديث عن أدب الصقر قبل أيام.
الجلسة التي قدّمها القاصّ كامل فرعون، تحدّث فيها عن أهمية الصقر ضمن جيل الخمسينات المؤسس للقصة القصيرة في العراق، مبيناً أن الصقر المولود عام 1927 بدأ حياته بمحاولات في كتابة الشعر، لكن القصة استهوته فاتجه لكتابتها، وكانت أولى محاولاته بين عامَي 1947 و1948، وتلتها قصص أخرى نشر بعضها في مجلة «الأديب» اللبنانية. وأشار فرعون إلى أنه لم يكن بين طموحات الصقر أن يكون قاصاً، على رغم أنه أدمن في طفولته وشبابه قراءة الروايات البوليسية، التي كانت آغاثا كريستي بارعة في نسجها في أربعينات القرن الماضي، إلى جانب ظروفه الأسرية، إذ عاش مع جدته التي كانت بارعة في رواية الحكايات التي دارت وتدور في مدينته الأثيرة، البصرة.
افتتح الحديث عن الصقر ولده عادل الذي قرأ بعضاً من مذكرات والده عن حياته التأسيسية الأولى، قائلاً: «كان أبي عطاراً يبيع الأعشاب ذات الأسماء الغريبة. لم يدخل مدرسة. تعلم القرآن في الكتّاب مثل عدد من أبناء جيله، وكانت والدتي لا تعرف القراءة والكتابة. أدخلني أبي إلى المدرسة، وحين خطر في بالي أن أترك الدراسة بعد مدة قبل إكمال المرحلة الإعدادية مدفوعاً بتمرد حبيس فيّ، لم يجبرني والدي للعودة. حاولت أن أتعلم خارج الصف، تعلمت اللغة الإنكليزية واشتغلت مترجماً لدى أحد المتعهدين في السنة الأخيرة للحرب العالمية الثانية». كما بيّن الصقر في مذكراته أن أحبّ الرسم، ودرس السلالم الموسيقية والعزف على آلة الكمان، «إلا أن الأدب أخذني إليه. كانت بداياتي مع الروايات البوليسية منها بشكل خاص لما فيها من عنصر إثارة وتشويق. مارست الكتابة بشكل جدّي عام 1947، ونشرت أولى محاولاتي القصصية عام 1948. أخذت دروساً في اللغتين الفرنسية والألمانية، وترجمت مسرحية «مشعلو الحرائق» عن الألمانية. في هذه الأثناء توطدت صداقة حميمة بيني وبين أدباء البصرة، منهم الشاعر بدر شاكر السيّاب والقاص محمود عبد الوهاب والشاعر محمود البريكان وآخرون».
عرف عن الصقر ريادته للقصة الواقعية في العراق، التي سماها القاص محمد خضير بـ«قلعة الواقعية في العراق»، وملاحظة خضير هذه تستند إلى قصة مهمة في تاريخ السرد العراقي كتبها الصقر ونشرها في «غضب المدينة» عام 1960. موضوع القصة هو هروب فلاح مع عائلته المكونة من زوجته وطفله من سطوة النظام الإقطاعي في ذلك الوقت، أخذ عائلته في قارب، وخلال مروره قرب قلعة الإقطاعي الكبير بدأ طفله بالبكاء بصوت مرتفع، فلم يكن لديه من بد لإسكاته إلا أن هوى بالمجذاف على رأسه ورأس زوجته، بينما كانت أضواء القلعة تتلألأ وتكشف الهاربين.
استعار الصقر بحسب كلام خضير، أيقونة القلعة ونقلها من موقعها القديم الإقطاعي، إلى موقع آخر في بداية الحرب العالمية الثانية، عندما شرع بناة الواقعية الأولى في إقامة قلعة الواقعية الكبيرة، وكانت هناك أربع مجموعات قصصية قامت عليها هذه القلعة، أولاها مجموعة الصقر «مجرمون طيبون»، ومجموعة عبد الملك نوري «نشيد الأرض» وكلتاهما صدرتا عام 1954، ثم تلت هاتين المجموعتين مجموعة غائب طعمة فرمان «مولود آخر» عام 1960، ومجموعة «الوجه الآخر» لفؤاد التكرلي… المجموعات الأربع هذه هي الأركان الأربعة التي قامت عليها قلعة الواقعية الكبيرة في العراق. قد لا يستطيع غيري أن يتصور مهدي عيسى الصقر، إلا من خلال هذه القلعة التي كانت تطل على الواقع الأدنى الذي كانت تعيش فيه مجموعة كبيرة من الشخصيات، وكان الراحل أشبه بأيقونة الصقر نسبة إلى لقبه، يطلع على الجموع في الواقع الأدنى وينظرها بنظرة التفحص والعطف والنقد، لذلك فإنه يشبه شعلة بروميثيوس الذي هبط بشعلته إلى البشر… القلعة والصقر كانا دالتين على تلك المرحلة المهمة.
هبط الصقر إلى الوادي الأسفل يحمل شعلة اللغة الثانية، أعني بها لغة الحلم والنار والحرية. هذه اللغة التي استطاع أن يفتت بها الصقر صخور الواقع الأسفل وينبه هذه الجموع السادرة في غيها إلى ما يجب عليها من تغيير واتجاه إلى مطلع الحرية. وفي الواقع، أن قصاصي الواقعية في العراق كانت مهمتهم أكبر بكثير من مهمة الواقعيين المتأخرين، فقد كانت مهمتهم أن يحاكوا عذاب هذه الجموع التي تتكلم اللغة الأولى، بينما كان هؤلاء القصاصون يضمرون لغتهم الثانية، اللغة العظيمة، لغة الحلم والنار، التي أرادوا أن يضيئوا بها دروب هذه الجموع. وعندما نتكلم عن الواقعيين المتأخرين الذين يقيمون في ظل أو جوار القلعة الكبيرة، أشعر بأنهم ليس عليهم إلا أن يكرروا ذلك الحلم القديم، حلم اللغة الثانية، وأن يتابعوا حلماً كان الراحل قد كتب عنه في «وجع الكتابة»، يصور نفسه سائراً في مدينة خالية يتبعه مطاردون مجهولون لا يعرفهم، ما نستطيعه اليوم أن نلملم أشلاء هذا الحلم ونواصل حلمنا الجديد، حلم اللغة الثانية التي كان يحمل شعلتها أولئك النقديون الكبار الذين فقدناهم واحداً بعد الآخر، إذ هاجر فؤاد التكرلي، وهاجر ذو النون أيوب قبله، وبقي مهدي عيسى الصقر أميناً على أسرار تلك القلعة، القلعة المخربة التي تتراقص في دهاليزها ظلال الشخصيات التي بقيت أمينة مثل خالقيها في ظل هذه القلعة، وعندما نصحو في الوقت الحاضر على ذلك الحلم القديم، فإننا لن نجد غير هذه الظلال المتراقصة، هذه الأشباح التي ذهبت إلى القلعة كي تقبس شيئاً من نيران أولئك المبدعين الكبار. واقعيو القلعة الجديد، سيرتقون القلعة، وسيحاولون أن يقبسوا شيئاً من نيران أولئك الراحلين، غير أنهم في حقيقة الأمر لن يصحوا إلا على حلم قديم أيضاً.
من جانب آخر، تحدث الناقد جميل الشبيبي عن الصقر باعتباره من الرواد المهمين للقصة القصيرة في العراق، حيث ذلك الجيل الذي جهد لأن تكون قصته معبرة عن الواقع الذي يعيش فيه، فضلاً عن فنيتها العالية… مضيفاً أن المتأمل لكتابات العراقيين في الخمسينات، مثل مهدي عيسى الصقر وعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وغيرهم من الكتاب الذين بدأوا هذا الفن، يرى أنهم كانوا يعبرون عن الآخر المضطهد والمهمش والضائع في أزقة الواقع، وليس جميعهم كانوا ينظرون من علٍ إلى هذه الجموع، قسم من هؤلاء الكتاب مثل عبد الملك نوري، كانوا من عائلة غنية، فكيف استطاع أن يتجرد من طبقته ويحاول أن يعبر عن الفقراء؟ لكنهم كانوا يريدون أن يعبّروا عن أفكارهم ومفاهيمهم عن الحياة. وتساءل الشبيبي في حديثه: هل إن هذه القصص التي كتبت في ذلك الوقت كانت قصصاً أيديولوجية؟ هل كانت تعبر عن أفكارهم؟ لأن معظم كتابات هؤلاء الكتاب كانت تعبر عن انتماءاتهم لأحزاب سياسية أو لأفكار تنويرية للواقع العراقي، فضلاً عن أنهم كانوا امتداداً للكتاب الذين سبقوهم، مثل محمود السيد وذو النون أيوب وغيرهما.
وتحدث الشبيبي عن مجموعة الصقر الأولى «مجرمون طيبون»، قائلاً إنها ضمت قصصاً قصيرة فيها وجهة نظر الكاتب في بداياته، فهو كتب عدة قصص قبل هذه المجموعة، إلا أنه ربما لم يضمن قسماً منها في مجموعته الأولى، بل ضم قصصاً جديدة تعبر عن توجهه الجديد. موضحاً أن في هذه المجموعة عالمين متناقضين، عالم أغنياء وعالم فقراء. في قصة عود الثقاب»، وهي قصة المجموعة الأولى، يصور ملهىً ليلياً فيه زبائن من طبقات مختلفة. القاص يدير السرد من خلال شخصية غنية، ويحاول أن يسلط الضوء على الجو العام لمكان القصة من خلال وجهة نظر هذا الشخص الذي تستهويه إحدى الراقصات فيحاول استمالتها بالمال، لكنها لا تستجيب له؟ وعندما تبدأ وصلتها الغنائية، يرشي الزبائن الفقراء لكي يحثهم ضدّ المغنية فتفشل في غنائها. من جهتها تسعى إلى الانتقام منه بطريقة أخرى، فتسعى إلى استمالته بجعله يصرف كل ما لديه من المال، لتبتسم في نهاية القصة كناية عن انتقامها منه بالسلاح الذي ذلها به، وجعله مسيطراً عليها وعلى غيرها من الزبائن.
ما يلفت النظر، أن مهدي عيسى الصقر كان لا يكتب عن المدينة فقط، بخلاف القصاصين العراقيين المجايلين له، فلديه مجموعة قصص محورها الرئيس الصراع بين المدينة والصحراء، أو بين البدوي والمديني. وغالباً ما يستخدم القطار كرمز للعلاقة بين المدينة والصحراء، فما يربط البدوي بالمدينة هو القطار الذي يمر إلى جانبه لا أكثر. بهذه الطريقة، يحاول الصقر أن يبعث التساؤلات لدى الآخرين. فالثيمة الأساسية في كتاباته هي إبراز الصراع بين المدينة والصحراء، يسعى في قصصه إلى إبراز حياة هؤلاء الناس.
يذكر أن مهدي عيسى الصقر أصدر خمس مجموعات قصصية، هي: «مجرمون طييون» 1954، «غضب المدينة» 1960، «حيرة سيدة عجوز» 1986، «شتاء بلا مطر» 2000، وأخيراً: «شواطئ الشوق» 2001. كما أصدر سبع روايات هي: «الشاهدة والزنجي»، «أشواق طائر الليل» 1995، «صراخ النوارس» 1997، «الشاطئ الثاني» 1998، «رياح شرقية غربية» 1998، «امرأة الغائب»، «بيت على نهر دجلة» 2006.. فضلاً عن كتابه «وجع الكتابة، مذكرات ويوميات» 2001.
كاتب عراقي