سَبْرُ الفكر والهويّة.. يا رفيقي.. نُخَبُنا ليست «إمعّات»
نظام مارديني
في البداية لا بدّ لي من تأكيد أن من أهم مميزات الحوار الفكري أن يلتزم بمفردات ومفاهيم ومعاني الموضوع المطروح بعد الاتفاق التام الموحد عليها، والتدقيق في معاني المصطلحات والمفردات المستخدمة، بحيث تكون اللغة المصطلحية واحدة فتشكل أرضية للحوار. وأرى أن ذلك يتحقق كلما كان اطلاع المتحاورين واستيعابهم ووعيهم مفرداتهم كافياً وبالتالي تكون لغة الحوار واحدة ويكون محيطاً بالموضوع بكفاية .
وأياً كان الدافع المحتمل الذي يحفز المحاور على طرح ما يريده، فإن جميع الدوافع للكتابة يجب أن تضع المحاور أمام قيمة التفاعل الإيجابي بالحوار مع الآخر، وبالتالي فـ»من الحوار ينبثق النور» كما ردد أفلاطون قبل قرون. وإذا توفرت موضوعية الحوار والنقد الإيجابي واحترام الآخر «المختلف» فلا يوجد سبب ينفّر المحاور من الردّ إلا إذا أُخلّ بقواعد الحوار.
لقد أسعدني جداً الرفيق سرجون خليل بـ«ملاحظاته» على نقاط في مقالتي «أسئلة المثقف والخطاب الطائفي والعنصري!»، التي نشرت الخميس في 9/3/2015، وأود الإشارة إليه هنا بعد قراءتي لرد الرفيق سرجون أن نصه غير مترابط، ما عدا أول قسم فيه يتحدث فيه عن أولوية التركيز على خطورة تجاوز أو تخفيف أهمية وضع مسألة الهوية والانتماء الوطني على أنها أساس المشكل ـ المأساة وأساس الحل لمجتمعنا وفي هذه لا خلاف فيها.
عدا مسألة الهوية فان ما تبقى من المقال كلام مبهم لم يخلص إلى أي معنى فيه غير انتقاده مصطلحات معينة… بدا فيه وكأنه خرج عن محور الموضوع إما عن غير قصد أو متعمّداً.
ولكن ما صدمني في رد الرفيق سرجون هو إطلاق تعميماته على النخب الفكرية جميعاً بأنهم «إمعات» و«أبواق» في سياق قوله إن هذه النخب «لم تقدم إجابات واضحة عن الهوية»، وفي ذلك ظلم بحق قسم كبير من مثقفي بلادنا.
يدرك الرفيق سرجون أن من خلال تصدينا لآلة الحرب الغربية ومشاريعها على وطننا فقد تحدثنا عن الذين كانوا صوت هذه الآلة ومسوّقي مشاريعها مطوّلاً، وبالأسماء، في سلسلة مقالات حول مسألة الهوية خلال قراءاتنا ظاهرة الجماعات القائمة في بلادنا. والرفيق سرجون نشر العديد من هذه المقالات على موقع الطلبة الجامعيين في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وقد تحاورنا «فيسبوكياً» حول بعض هذه المقالات وبعض المصطلحات التي قد لا يستسيغها رفقاؤنا.
الحديث عن الهوية يصبح الأمر الأكثر أهمية وإلحاحاً، بل ومداهماً عند غياب وضوح خطورتها وماهيتها عند النخب الفكرية والثقافية من جهة والإحساس بوجود التميّز تميّز الجماعات بعضها عن بعض وهو الذي ينتج عن خلل في تصنيف معاني الانتماء وترتيبها بحسب ضرورتها لوظيفة ما في السياق التاريخي لجماعة وما إذا كانت منتجاتها أخلاقية أو إيجابية لجهة الخير العام والقيم الإيجابية العامة. وهل هي ضد الغير، وهل هي طبيعية أم طارئة، سلامية أم عدوانية، ومقاربتها مع مفهوم النشوء – نشوء الجماعة – وارتقائها، وصنعها الحياة.
والسؤال الذي يلحّ بهذا الصدد هو: هل الصورة التي يرسمها منتج المعرفة لفئة أو جماعة ما عن الآخر هي نتاج اكتشاف موضوعي نقي لكينونته وماهيته وهويته؟
وقد حدد سعاده الهوية بوحدة المجتمع السوري: «الأمة السورية مجتمع واحد»، مشدداً على خطاب المعرفة «المجتمع معرفة»، ولكنه أشار إلى أن كل المجتمع يتجلى، بإطاره الإنساني، في تنوع هائل.
أما ملاحظته الرفيق سرجون عن مصطلحَي «الاختلاف» و«الخلاف»، فأود تذكيره بأننا مؤمنون بـ«الصراع الفكري»، ولذلك فإن الصراعات القائمة والدائرة داخل مجتمعنا، تبدو في جوهرها صراعات من أجل عدم قبول الآخر المختلف، وتمزيق عرى التفاعل المشترك معه. وما يجري في وطننا السوري الآن من حديث مثلاً عن الفدراليات الطائفية أو العرقية، وقبول الكثيرين، تحت دعوى «الواقعية» أو الأمر المفعول المفروض بالقوة، بهذه الفدراليات وأنه لا مجال لوحدة الحياة المشتركة بين السوريين بسبب المشكلات الطائفية والإثنية العميقة، كلها تتجاهل حقيقة أن الجذر الدافع لهذه الدعوى هو عدم معرفتنا بحقيقة هذا «المختلف»، ولذلك فإن بارانويا الاختلاف، أو الارتياب من المختلف بين جماعة وجماعة، استمرت بإفراز هرموناتها السامة في مجتمعنا.
وطننا يتوحّد في واقع حياته بقدر ما يستوعب «الاختلاف» و«المختلف» ويدمجه في حركته العامة. وهذا هو الدرس الذي لا يبدو أن مجتمعنا في سورية الطبيعية يفهمه بشكل جيد، أو عن فهمه جيداً فلا يطبقه.
أما القول بأنني تغاضيتُ عن «البنية النفسية للمجتمع» فمرده إلى أن قراءة مقالتي ليست كافية، رغم أن المقالة المذكورة ناقشت انبعاث الهويات الفرعية و«مبرراته التأريخية والسوسيولوجية»، إلا أن هذه المبررات لم تؤدّ إلى فتح النقاش بين النخب السياسية والثقافية والفكرية العراقية والسورية في شأن ماهية الهوية وجدل الهويات الفرعية، بسبب العجز المعرفي لهذه الجماعات والضجيج والفوضى السياسية…، فلم تقدِّم النخب إجابات واضحة بشأن نظام العقد الاجتماعي، وتحايلت على سؤال الهوية عبر سلسلة من عمليات «الإقصاء» و«التبرير» و«التجاهل» وأن تغييب كل خلاف فكري وثقافي ومرجعي، سيشكل مقدمة لصدام الهويات الطائفية والعرقية داخل الجسم السياسي لكل من الدولة السورية والعراقية.
وبهذا المعنى يجب أن يكون واضحاً أن النخب الفكرية لا تأتي من لا شيء وإنّما تسبح في فضاء ومحيط وحاضنة محددة ومعروفة.
وأرى أنّ استمرار عقلية «المسطرة»، إما أنْ تكتب وتقرأ وتتكلم كما نشاء أو أنْ تكون «أمّعة» أو «بوقاً» لنا هي التي عزلت النخب الثقافية عن حركة النهضة منذ سنوات. نحن بحاجة إلى بنية جامعة مفتوحة لا تضع افتراضات مسبقة ولا تملي ولا تضع القواعد والشروط خارج هدف رئيسي واحد لا تجوز المخاطرة فيه أو تخطيه وهو: أنْ نلهج بحقيقتنا وأن نخدم فكرنا وأن يكون من أجل منعة وطننا.
فالإيمان بفكر سعاده لا يستمر إلا باثنتين:
المعرفة والانتماء.