لبنان الخجول مقابل سورية: الدواء والنفايات والاتصالات

ناصر قنديل

– ليس الوقت مناسباً ليقول أحد للسوريين إن بلدهم ومستوى الحياة فيه، وحجم المعاناة التي تضغط على أهلها، عناصر تجعل من سورية بلداً يُحسد أهله على الحياة فيه، فسوريا تنزف تحت وطأة حرب قتلت وشردت ودمرت، ولم تبق ولم تذر، ومستوى معيشة السوريين انخفض إلى أقل من النصف، وفرص العمل تراجعت إلى أقل من نصف ما كانت عليه، وتدنّت مستويات الخدمات التي تؤمنها الدولة إلى أقل من ربع ما كانت قبل الحرب، والوضع الأمني وتهديدات الموت تخيّم في كل مكان، وقد صار قرابة نصف السوريين خارج بلدهم، وقرابة ربعهم يحتاج مساعدات إغاثية وقد تخطّى وضعهم خط الفقر تدهوراً في شروط الحياة، لكن في سورية يعرف السوريون مواعيد مجيء وانقطاع الكهرباء، ونسبة التغذية بالتيار الكهربائي تقارب السبعين من المئة على عموم المساحة السورية كمعدل وسطي، والطرقات في الأماكن التي لا تمنع الحرب فيها الورش الحكومية من العمل لا تزال تحظى بالصيانة الدورية، ولا يزال الموظفون يقبضون رواتبهم في كل مؤسسات الدولة السورية ومناطقها، ولا تزال المدارس والجامعات تستقبل الطلاب وتقدّم التعليم لهم مجاناً، ولا تزال المستشفيات تجري آلاف العمليات الجراحية بما فيها أشدها تعقيداً بأكلاف رمزية لكل المواطنين السوريين، حيث لم تدمّر الحرب المنشآت الصحية، ولا يزال الخبز والكهرباء يصلان للسوريين بأسعار تتحمّل خزينة الدولة قرابة نصفها.

– يعيش اللبنانيون نظرياً خارج الحرب التي عصفت ببلدهم، منذ ربع قرن، وقد أنفقوا على إعادة تأهيل قطاعات الكهرباء والاتصالات والطرق قرابة خمسين مليار دولار، ولديهم بيئة أمنية جيدة قياساً بما تعرفه دول المنطقة منذ خمس سنوات، من سورية إلى العراق ومصر وتركيا وتونس والسعودية وسواها من بلدان الجوار، لكنهم رغم ذلك، ومع رئيس للجمهورية وبدونه، يدفعون أغلى فاتورتي كهرباء وهاتف في المنطقة دون الحصول على أفضل الخدمات وأكثرها انتظاماً، وهم في المقارنات التي تجريها المؤسسات الدولية يدفعون أعلى فاتورة للطبابة في العالم قياساً بعدد السكان ويحصلون على مستوى خدمة صحية تجعل بلدهم في المرتبة المئة والسبعين من هذه الزاوية، حسب تقييمات 2015، ويعتبر لبنان من البلدان الأغلى في تكاليف التعليم، مقارنة بأوروبا، ويكفي القول في الميادين التي لا تتحمّل فيها الدولة أي أعباء وأكلاف في التسعير، فأن أسعار الدواء وأجور الاتصالات والإنترنت، وهي القطاعات التي يديرها القطاع الخاص وتشرف عليها الدولة وترعاها كخدمات عامة، تعادل عشرة أضعاف الأسعار والأجور

للأدوية وخدمات الاتصالات ذاتها في سوريا، ولا تزال كذلك وربما صارت عشرين ضعفاً في ظل الحرب التي تعصف بسوريا منذ خمس سنوات، وفي البلدين يدير السوق في هذين المجالين قطاع خاص، ومصدر الكلفة الأصلية للمنتج والخدمة أجنبي وربما يكون واحداً، ويستهلك اللبنانيون كما السوريون الدواء وخدمات الاتصالات بما يعادل كلفة الطعام من دخلهم الشهري.

– لم يسمع أحد رغم خمس سنوات حرب في سورية عن فضائح في سوق الدواء كالتي يضج بها لبنان، كل سنة مرة على الأقل، ولا عن فضائح قرصنة وتهريب في قطاع الاتصالات، كتلك التي تهب على لبنان بعواصفها كل عامين، ويحمل كل لبناني يزور سورية هذه الأيام جداول طلبات من الأصدقاء لشراء الأدوية، ويفرح لدى بدء تلقيه الشبكات السورية الخلوية أنه لن يقيم حساباً للفاتورة بعد الآن وسيتمتع بخدمة إنترنت شبه مجانية قياساً بتلك التي يحظى بها في لبنان ولكنها أفضل، ورغم الحدود الفالتة لسوريا جنوباً وشمالاً خارج نطاق سيطرة الدولة، لم تنجح مافيا التهريب في اختراق السوق السورية بينما تحقق كل يوم نجاحاً جديداً في السوق اللبنانية، خصوصاً في مجالي الدواء والاتصالات، بينما تحقق اليوم كما كانت تحقق في ظل قوة الدولة السورية وهيبتها نجاحاً تقليدياً في سوقي الدخان والمشروبات السوريتين، وهو أمر تشترك فيه سورية أيام السلم والحرب مع دول أوروبا، حيث الضرائب المرتفعة على هذه السلع تجعل أمام المخاطرة والمغامرة حوافز مجزية لدخول السوق السوداء على المهربين والمستهلكين للمواد المهربة على السواء، والمفارقة أن لبنان يشكل أحد أكبر أسواق التهريب لهذه السلع نحو سورية والمنطقة، لأن الأسعار المعتمدة في السوق اللبنانية كما يصفها المهربون «تنافسية»، بينما هوامش الأسعار في سوقي الدواء والاتصالات تجعل التهريب إلى لبنان محفزاً، على عكس سورية بالتمام والكمال، لأن الدولة تتدخل لتجعل الأسعار خيالية، علنا نعرف الفضيحة الكبرى التي نتستر بها سائر فضائحنا الموسمية في قطاعَي الدواء والاتصالات، ونتعرّف على الهوية الاجتماعية لدولتنا وما تريد لنا استهلاكه بسهولة وما يصعب علينا الحصول عليه، ودائما بقوة سلطتها في مجال التسعير.

– فضيحة الفضائح عندنا، ومدعاة خجلنا عندما نذهب إلى سورية المنهكة بحرب السنوات الخمس، ولا نرى أثراً لأزمة النفايات وجبالها المنتشرة بين بيوتنا وشوارع مدننا وصارت تنافس جبالنا البيضاء، ويعجز طاقمنا الحاكم عن إيجاد الحلول لها، بينما لا تزال الآليات الموضوعة لمعالجة النفايات وجمعها على مساحة سورية عموماً، ما خلا استثناءات الظروف القاهرة، تعمل بفعالية، وبروتين تقليدي لا يتعثر ولا يتوقف، والفضيحة الأسوأ هي تجرؤ المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا على دعوة السوريين لاستيحاء حل سياسي لأزمتهم من النموذج اللبناني الملهم، حيث التوزيع الطائفي لمراكز الحكم يشكل القطبة المخفية للفساد المتفشي في كل مكان، من سوق الدواء إلى قطاع الاتصالات وليس انتهاء بفضيحة النفايات.

– لبنان خجول أمام سورية في قطاعات الدواء والاتصالات والنفايات وفي كل مجال تقرر فيه الطائفية مقابل الدولة المدنية، كيفية التدخل في حياة مواطنيها، فمتى يخجل أهل الطائفية من فضيحتهم؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى